إذاعة الشرق
قدّم وزير الداخلية الفرنسي، برونو ريتايو، يوم الاثنين، تعليمة جديدة تهدف إلى تشديد معايير تجنيس الأجانب، في خطوة تؤكّد التوجّه الجديد للحكومة الفرنسية نحو مزيد من الصرامة في ملفات الهجرة والجنسية. ينصّ النص الجديد على تدقيق أكبر في احترام القوانين الفرنسية، وإتقان اللغة، والاندماج الاقتصادي.
وخلال زيارته إلى محافظة كريتاي، جنوب باريس، قال ريتايو: «هذا التعميم يُمثّل قطيعة»، مؤكداً في الوقت ذاته أنه «ليس قطيعة مع قانوننا»، بل «عودة إلى جوهر الجنسية كاستحقاق». وأضاف: «أن تصبح فرنسياً يجب أن يكون استحقاقاً، وعلينا أن نكون صارمين جداً»، مشيراً إلى أن الجنسية يجب أن تستند إلى الشعور بالانتماء وليس فقط الأصل.
ريتايو: «أن تصبح فرنسياً يجب أن يكون استحقاقاً، وعلينا أن نكون صارمين جداً»
وكان الوزير قد سبق أن قام في يناير بمراجعة التعميم المتعلق بتسوية أوضاع المهاجرين غير النظاميين، واليوم قدّم تفاصيل أكثر حول المعايير الثلاثة الجديدة للحصول على الجنسية:
احترام القوانين: طلب ريتايو من المحافظين رفض طلبات الجنسية المقدمة من أشخاص كانوا في وضع غير نظامي في الماضي.
إتقان اللغة ومعرفة التاريخ: سيتم رفع مستوى امتحان اللغة الفرنسية الشفوي، كما سيتم ابتداءً من 1 يناير 2026، اعتماد امتحان مدني جديد لتقييم معرفة مقدم الطلب بتاريخ فرنسا وثقافتها وقيمها الجمهورية.
الاستقلال المالي: يتوجب على المحافظين التأكد من أن مقدّمي الطلبات يمتلكون موارد مالية كافية تضمن عدم اعتمادهم على المساعدات الاجتماعية.

صورة تعبيرية
جذور المشكلة
لا يمكن فهم تشديد سياسات التجنيس في أوروبا دون النظر إلى الدوافع المتزايدة للهجرة من الجنوب العالمي نحو الشمال. فالهجرة لم تعد فقط نتيجة مباشرة للحروب، كما هو الحال في سوريا أو السودان، بل أصبحت أيضاً مرتبطة بشكل متزايد بالأزمات المناخية التي تضرب مناطق واسعة من إفريقيا والشرق الأوسط، مسببة شحّ المياه، وتصحر الأراضي، وتدمير البنى الزراعية. إلى جانب ذلك، يواصل التدهور الاقتصادي في العديد من دول الجنوب، نتيجة الفساد أو النزاعات أو انعدام التنمية، دفع الملايين إلى البحث عن مستقبل أفضل في أوروبا، حيث تبدو فرص العيش الكريم، ولو بصعوبة، أكثر واقعية من واقعهم القاسي. هذه التحولات تضع الدول المستقبِلة أمام تحديات كبيرة، فتسعى من جهة إلى تنظيم الهجرة، ومن جهة أخرى إلى إعادة تعريف شروط الانتماء، وهو ما يفسّر هذا الميل المتصاعد نحو تشديد قوانين الجنسية في أكثر من بلد.
تشديد التجنيس ليس ظاهرة فرنسية فقط
الخطوة الفرنسية تأتي في سياق عالمي أوسع شهد خلال السنوات الأخيرة اتجاهاً عاماً نحو تشديد شروط الجنسية في عدد من الدول الغربية لعدد من الأسباب، منها الهجرة والنز:
الدانمارك: منذ 2018، شدّدت قوانينها بشكل كبير، حيث تطلب مستوى عالٍ من اللغة، وسنوات إقامة طويلة (9 سنوات)، ونجاح في اختبار صعب للمعرفة الثقافية والقيم الوطنية، بالإضافة إلى مقابلة شخصية مع السلطات.
ألمانيا: حتى عام 2023، كانت تشترط 8 سنوات من الإقامة، وتمت مراجعة القانون حديثاً لتيسير الجنسية لبعض الفئات، لكنها لا تزال تطبق اختبارات صارمة في اللغة والمعرفة المدنية. وتؤكّد على التخلي عن الجنسية الأصلية في أغلب الحالات، وهو ما لا تفرضه فرنسا.
النمسا: تعتبر من أكثر الدول تشدداً في أوروبا، حيث يتطلب الحصول على الجنسية إقامة لمدة 10 سنوات، وإثبات اندماج فعلي ومعرفة دقيقة باللغة والثقافة، فضلاً عن سجل عدلي نقي تماماً.
سويسرا: تطلب ليس فقط الإقامة الطويلة (10 سنوات)، بل أيضاً موافقة المجتمع المحلي، وإثبات الانخراط النشط في الحياة الاجتماعية والثقافية، مما يجعل العملية معقدة وتخضع لمعايير غير واضحة في بعض الأحيان.
بذلك، يبدو أن فرنسا تنضم إلى هذا التوجّه الدولي، لكنها تسعى من خلال هذا التعميم إلى إعادة تعريف العلاقة بين الفرد والدولة، وترسيخ فكرة الجنسية كعقد مدني ثقافي وقانوني واجتماعي، وليس مجرد إجراء إداري.
إقرأ ايضاً: ما الأسباب وراء انقطاع الكهرباء في أجزاء من أوروبا؟
فاصلة تاريخية: متى بدأ مفهوم التجنيس؟
ظهر مفهوم التجنيس كممارسة قانونية في العصور الحديثة مع نشوء الدولة القومية وبروز فكرة “المواطَنة” كعلاقة رسمية بين الفرد والدولة. لكن جذوره تمتد أعمق في التاريخ. ففي الإمبراطورية الرومانية، كان يُمنح حق المواطنة للأفراد غير الرومان كوسيلة لدمجهم وتعزيز الولاء للإمبراطورية. ومع الثورة الفرنسية عام 1789، بدأت تتبلور رؤية جديدة للجنسية، تقوم على الانتماء إلى أمة وليس إلى حاكم. في القرن التاسع عشر، ومع صعود الدولة الحديثة، بدأت القوانين تُنظّم التجنيس بشكل أدق، وغالباً ما كان يُمنح لأسباب سياسية أو عسكرية أو اقتصادية. ومع مرور الوقت، أصبح التجنيس وسيلة لتوسيع قاعدة المواطنين، ثم تحوّل تدريجياً إلى أداة للفرز والانتقاء، تعكس تصوّرات الدولة عن “الاندماج” و”الاستحقاق”. واليوم، يُنظر إلى الجنسية لا فقط كحق بل كعقد متبادل، تُطالب فيه الدولة من الفرد بإثبات الولاء والانتماء مقابل الحقوق المدنية والسياسية
إذاعة الشرق
قدّم وزير الداخلية الفرنسي، برونو ريتايو، يوم الاثنين، تعليمة جديدة تهدف إلى تشديد معايير تجنيس الأجانب، في خطوة تؤكّد التوجّه الجديد للحكومة الفرنسية نحو مزيد من الصرامة في ملفات الهجرة والجنسية. ينصّ النص الجديد على تدقيق أكبر في احترام القوانين الفرنسية، وإتقان اللغة، والاندماج الاقتصادي.
وخلال زيارته إلى محافظة كريتاي، جنوب باريس، قال ريتايو: «هذا التعميم يُمثّل قطيعة»، مؤكداً في الوقت ذاته أنه «ليس قطيعة مع قانوننا»، بل «عودة إلى جوهر الجنسية كاستحقاق». وأضاف: «أن تصبح فرنسياً يجب أن يكون استحقاقاً، وعلينا أن نكون صارمين جداً»، مشيراً إلى أن الجنسية يجب أن تستند إلى الشعور بالانتماء وليس فقط الأصل.
ريتايو: «أن تصبح فرنسياً يجب أن يكون استحقاقاً، وعلينا أن نكون صارمين جداً»
وكان الوزير قد سبق أن قام في يناير بمراجعة التعميم المتعلق بتسوية أوضاع المهاجرين غير النظاميين، واليوم قدّم تفاصيل أكثر حول المعايير الثلاثة الجديدة للحصول على الجنسية:
احترام القوانين: طلب ريتايو من المحافظين رفض طلبات الجنسية المقدمة من أشخاص كانوا في وضع غير نظامي في الماضي.
إتقان اللغة ومعرفة التاريخ: سيتم رفع مستوى امتحان اللغة الفرنسية الشفوي، كما سيتم ابتداءً من 1 يناير 2026، اعتماد امتحان مدني جديد لتقييم معرفة مقدم الطلب بتاريخ فرنسا وثقافتها وقيمها الجمهورية.
الاستقلال المالي: يتوجب على المحافظين التأكد من أن مقدّمي الطلبات يمتلكون موارد مالية كافية تضمن عدم اعتمادهم على المساعدات الاجتماعية.

صورة تعبيرية
جذور المشكلة
لا يمكن فهم تشديد سياسات التجنيس في أوروبا دون النظر إلى الدوافع المتزايدة للهجرة من الجنوب العالمي نحو الشمال. فالهجرة لم تعد فقط نتيجة مباشرة للحروب، كما هو الحال في سوريا أو السودان، بل أصبحت أيضاً مرتبطة بشكل متزايد بالأزمات المناخية التي تضرب مناطق واسعة من إفريقيا والشرق الأوسط، مسببة شحّ المياه، وتصحر الأراضي، وتدمير البنى الزراعية. إلى جانب ذلك، يواصل التدهور الاقتصادي في العديد من دول الجنوب، نتيجة الفساد أو النزاعات أو انعدام التنمية، دفع الملايين إلى البحث عن مستقبل أفضل في أوروبا، حيث تبدو فرص العيش الكريم، ولو بصعوبة، أكثر واقعية من واقعهم القاسي. هذه التحولات تضع الدول المستقبِلة أمام تحديات كبيرة، فتسعى من جهة إلى تنظيم الهجرة، ومن جهة أخرى إلى إعادة تعريف شروط الانتماء، وهو ما يفسّر هذا الميل المتصاعد نحو تشديد قوانين الجنسية في أكثر من بلد.
تشديد التجنيس ليس ظاهرة فرنسية فقط
الخطوة الفرنسية تأتي في سياق عالمي أوسع شهد خلال السنوات الأخيرة اتجاهاً عاماً نحو تشديد شروط الجنسية في عدد من الدول الغربية لعدد من الأسباب، منها الهجرة والنز:
الدانمارك: منذ 2018، شدّدت قوانينها بشكل كبير، حيث تطلب مستوى عالٍ من اللغة، وسنوات إقامة طويلة (9 سنوات)، ونجاح في اختبار صعب للمعرفة الثقافية والقيم الوطنية، بالإضافة إلى مقابلة شخصية مع السلطات.
ألمانيا: حتى عام 2023، كانت تشترط 8 سنوات من الإقامة، وتمت مراجعة القانون حديثاً لتيسير الجنسية لبعض الفئات، لكنها لا تزال تطبق اختبارات صارمة في اللغة والمعرفة المدنية. وتؤكّد على التخلي عن الجنسية الأصلية في أغلب الحالات، وهو ما لا تفرضه فرنسا.
النمسا: تعتبر من أكثر الدول تشدداً في أوروبا، حيث يتطلب الحصول على الجنسية إقامة لمدة 10 سنوات، وإثبات اندماج فعلي ومعرفة دقيقة باللغة والثقافة، فضلاً عن سجل عدلي نقي تماماً.
سويسرا: تطلب ليس فقط الإقامة الطويلة (10 سنوات)، بل أيضاً موافقة المجتمع المحلي، وإثبات الانخراط النشط في الحياة الاجتماعية والثقافية، مما يجعل العملية معقدة وتخضع لمعايير غير واضحة في بعض الأحيان.
بذلك، يبدو أن فرنسا تنضم إلى هذا التوجّه الدولي، لكنها تسعى من خلال هذا التعميم إلى إعادة تعريف العلاقة بين الفرد والدولة، وترسيخ فكرة الجنسية كعقد مدني ثقافي وقانوني واجتماعي، وليس مجرد إجراء إداري.
إقرأ ايضاً: ما الأسباب وراء انقطاع الكهرباء في أجزاء من أوروبا؟
فاصلة تاريخية: متى بدأ مفهوم التجنيس؟
ظهر مفهوم التجنيس كممارسة قانونية في العصور الحديثة مع نشوء الدولة القومية وبروز فكرة “المواطَنة” كعلاقة رسمية بين الفرد والدولة. لكن جذوره تمتد أعمق في التاريخ. ففي الإمبراطورية الرومانية، كان يُمنح حق المواطنة للأفراد غير الرومان كوسيلة لدمجهم وتعزيز الولاء للإمبراطورية. ومع الثورة الفرنسية عام 1789، بدأت تتبلور رؤية جديدة للجنسية، تقوم على الانتماء إلى أمة وليس إلى حاكم. في القرن التاسع عشر، ومع صعود الدولة الحديثة، بدأت القوانين تُنظّم التجنيس بشكل أدق، وغالباً ما كان يُمنح لأسباب سياسية أو عسكرية أو اقتصادية. ومع مرور الوقت، أصبح التجنيس وسيلة لتوسيع قاعدة المواطنين، ثم تحوّل تدريجياً إلى أداة للفرز والانتقاء، تعكس تصوّرات الدولة عن “الاندماج” و”الاستحقاق”. واليوم، يُنظر إلى الجنسية لا فقط كحق بل كعقد متبادل، تُطالب فيه الدولة من الفرد بإثبات الولاء والانتماء مقابل الحقوق المدنية والسياسية
