عمرو سواح
في تطوّر لافت في المشهد العلمي العالمي، بدأت تتعالى الأصوات حول “هجرة العقول” من الولايات المتحدة، بعد أن كانت أميركا حلم كل عالم في أي مجال من المجالات. هذه الأخبار جاءت وسط تقارير تشير إلى تزايد شعور العلماء والباحثين بعدم الاستقرار أو قلة التقدير في بيئة العمل الأميركية.
ومما زاد من الجدل، دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً العلماء إلى “القدوم إلى فرنسا”، قائلاً “هنا في فرنسا، البحث أولوية، والابتكار ثقافة، والعلم أفق بلا حدود. أيها الباحثون من جميع أنحاء العالم، اختاروا فرنسا، اختاروا أوروبا!” في محاولة واضحة لجذب الكفاءات والاستفادة من هذا التحول.
ويأتي هذا التحول في وقت بدأت الجامعات والحكومات الأوروبية باتخاذ خطوات فعلية لاستقطاب الباحثين الأميركيين الذين تأثروا بتقليص التمويل أو فقدان وظائفهم. فقد أشارت تقارير إعلامية أميركية إلى أن أكثر من 350 عالماً وقعوا عريضة نُشرت في صحيفة «لوموند» الفرنسية، دعوا فيها المفوضية الأوروبية إلى إنشاء صندوق طوارئ بقيمة 750 مليون يورو لدعم استيعاب الباحثين العاملين في الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، أكدت نيكا بلازيفيتش، المتحدثة باسم المفوضية، أن هناك تحضيراً لاجتماع مرتقب لتنسيق استجابة فعّالة لتداعيات تخفيضات إدارة ترمب في تمويل البحث العلمي.
“دعوة للمفوضية الأوروبية من أجل إنشاء صندوق طوارئ بقيمة 750 مليون يورو لدعم استيعاب الباحثين العاملين في الولايات المتحدة”
فرنسا تقود الدعوة… ولكن من ينافسها؟
فرنسا ليست وحدها في هذا السباق. فقد أدركت عدة دول أوروبية أن استقطاب العقول العلمية الرفيعة يشكّل مفتاحاً أساسياً لتسريع النمو التكنولوجي والاقتصادي. بلجيكا، على سبيل المثال، أعلنت عن تخصيص ميزانية رمزية لضم عدد من العلماء والباحثين المحتمل قدومهم إلى أوروبا. كما بادرت جامعة “أكس” في مارسيليا باتخاذ خطوات سريعة لمواكبة هذه التحوّلات، وأبدت جامعات هولندية اهتماماً واضحاً بالاتجاه ذاته.
ويبدو أن العديد من الجامعات والمعاهد العليا باتت تُعيد النظر في أولوياتها، واضعةً استقطاب الكفاءات في صدارة استراتيجياتها، استعداداً لما يُتوقّع أن يكون موجة هجرة علمية كبيرة.
فمن هي الدول التي تتصدر هذا التوجه الطموح؟
1. ألمانيا: بخططها طويلة الأمد للتمويل العلمي، وتسهيل الهجرة الأكاديمية، تعتبر وجهة مغرية، خصوصاً مع جودة الحياة فيها واستقرار مؤسسات البحث.
2. كندا: تُعرف بسياساتها المرحّبة بالمهاجرين وبتوفير بيئة علمية منفتحة وحرّة. تمويلها المتنامي للبحث العلمي جعلها ملاذاً للكثير من الأكاديميين.
3. الصين: رغم التحديات السياسية، تواصل الصين إغراء الباحثين من خلال رواتب مجزية، وبنية تحتية متقدمة، وبرامج مثل “ألف موهبة” التي تستهدف العلماء الأجانب.
4. سنغافورة: تحوّلت إلى مركز بحثي رائد في آسيا، مستفيدة من موقعها الجغرافي وتسهيلاتها الهائلة للباحثين.
5. دول الخليج (مثل الإمارات والسعودية وقطر): تستثمر هذه الدول بكثافة في مراكز الأبحاث والجامعات العالمية، وتعرض فرصاً مادية سخية للعلماء، وقد تحولت خلال السنوات الأخيرة الماضية إلى بلدان جاذبة لعدد كبير من المشاريع العلمية.
لماذا يغادر العلماء الولايات المتحدة؟
يتجه العلماء لمغادرة الولايات المتحدة بسبب تصاعد التدخلات السياسية في المؤسسات الأكاديمية، وتراجع التمويل الفيدرالي للبحث العلمي، إضافة إلى القيود المفروضة على حرية التعبير والبحث. هذه التغييرات، التي شملت تسريحات جماعية وإعادة هيكلة أقسام أكاديمية حساسة، أثارت قلقاً واسعاً بشأن مستقبل الاستقلال الأكاديمي وجدوى الأبحاث، ودَفعت بالكثير من الباحثين إلى التفكير بجدية في الهجرة إلى بيئات أكثر استقراراً ودعماً للعلم.
فاصلة تاريخية: عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية مقصد العلماء:في أربعينيات القرن الماضي، أصبحت الولايات المتحدة مركزًا عالميًا للعلم والابتكار، مستقطبةً العلماء من جميع أنحاء العالم. هذا التحول بدأ بشكل حاسم خلال الحرب العالمية الثانية، عندما أنشأ الرئيس فرانكلين روزفلت “مكتب البحث والتطوير العلمي” بقيادة فانيفار بوش. تحت إشراف هذا المكتب، تم تطوير تقنيات حاسمة مثل الرادار، البنسلين، والقنبلة الذرية. بعد الحرب، أصدر بوش تقريرًا بعنوان “العلم: الحدود التي لا تنتهي”، دعا فيه إلى تمويل حكومي دائم للبحث العلمي الأساسي. هذا التقرير أسس لإنشاء “مؤسسة العلوم الوطنية” (NSF) في عام 1950، مما رسّخ دور الدولة في دعم البحث العلمي. بالإضافة إلى ذلك، استقطبت الولايات المتحدة العديد من العلماء الأوروبيين، بما في ذلك من خلال “عملية مشبك الورق” التي جلبت علماء ألمان بارزين مثل فيرنر فون براون، مما ساهم في تعزيز برامج الفضاء والصواريخ الأمريكية. هذا الاستثمار المكثف في البحث العلمي، بالتعاون بين الحكومة والجامعات والقطاع الخاص، جعل من الولايات المتحدة “مكة العلماء” لعقود، حيث شهدت البلاد تطورات هائلة في مجالات مثل الحوسبة، الطب، والفضاء.
عمرو سواح
في تطوّر لافت في المشهد العلمي العالمي، بدأت تتعالى الأصوات حول “هجرة العقول” من الولايات المتحدة، بعد أن كانت أميركا حلم كل عالم في أي مجال من المجالات. هذه الأخبار جاءت وسط تقارير تشير إلى تزايد شعور العلماء والباحثين بعدم الاستقرار أو قلة التقدير في بيئة العمل الأميركية.
ومما زاد من الجدل، دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً العلماء إلى “القدوم إلى فرنسا”، قائلاً “هنا في فرنسا، البحث أولوية، والابتكار ثقافة، والعلم أفق بلا حدود. أيها الباحثون من جميع أنحاء العالم، اختاروا فرنسا، اختاروا أوروبا!” في محاولة واضحة لجذب الكفاءات والاستفادة من هذا التحول.
ويأتي هذا التحول في وقت بدأت الجامعات والحكومات الأوروبية باتخاذ خطوات فعلية لاستقطاب الباحثين الأميركيين الذين تأثروا بتقليص التمويل أو فقدان وظائفهم. فقد أشارت تقارير إعلامية أميركية إلى أن أكثر من 350 عالماً وقعوا عريضة نُشرت في صحيفة «لوموند» الفرنسية، دعوا فيها المفوضية الأوروبية إلى إنشاء صندوق طوارئ بقيمة 750 مليون يورو لدعم استيعاب الباحثين العاملين في الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، أكدت نيكا بلازيفيتش، المتحدثة باسم المفوضية، أن هناك تحضيراً لاجتماع مرتقب لتنسيق استجابة فعّالة لتداعيات تخفيضات إدارة ترمب في تمويل البحث العلمي.
“دعوة للمفوضية الأوروبية من أجل إنشاء صندوق طوارئ بقيمة 750 مليون يورو لدعم استيعاب الباحثين العاملين في الولايات المتحدة”
فرنسا تقود الدعوة… ولكن من ينافسها؟
فرنسا ليست وحدها في هذا السباق. فقد أدركت عدة دول أوروبية أن استقطاب العقول العلمية الرفيعة يشكّل مفتاحاً أساسياً لتسريع النمو التكنولوجي والاقتصادي. بلجيكا، على سبيل المثال، أعلنت عن تخصيص ميزانية رمزية لضم عدد من العلماء والباحثين المحتمل قدومهم إلى أوروبا. كما بادرت جامعة “أكس” في مارسيليا باتخاذ خطوات سريعة لمواكبة هذه التحوّلات، وأبدت جامعات هولندية اهتماماً واضحاً بالاتجاه ذاته.
ويبدو أن العديد من الجامعات والمعاهد العليا باتت تُعيد النظر في أولوياتها، واضعةً استقطاب الكفاءات في صدارة استراتيجياتها، استعداداً لما يُتوقّع أن يكون موجة هجرة علمية كبيرة.
فمن هي الدول التي تتصدر هذا التوجه الطموح؟
1. ألمانيا: بخططها طويلة الأمد للتمويل العلمي، وتسهيل الهجرة الأكاديمية، تعتبر وجهة مغرية، خصوصاً مع جودة الحياة فيها واستقرار مؤسسات البحث.
2. كندا: تُعرف بسياساتها المرحّبة بالمهاجرين وبتوفير بيئة علمية منفتحة وحرّة. تمويلها المتنامي للبحث العلمي جعلها ملاذاً للكثير من الأكاديميين.
3. الصين: رغم التحديات السياسية، تواصل الصين إغراء الباحثين من خلال رواتب مجزية، وبنية تحتية متقدمة، وبرامج مثل “ألف موهبة” التي تستهدف العلماء الأجانب.
4. سنغافورة: تحوّلت إلى مركز بحثي رائد في آسيا، مستفيدة من موقعها الجغرافي وتسهيلاتها الهائلة للباحثين.
5. دول الخليج (مثل الإمارات والسعودية وقطر): تستثمر هذه الدول بكثافة في مراكز الأبحاث والجامعات العالمية، وتعرض فرصاً مادية سخية للعلماء، وقد تحولت خلال السنوات الأخيرة الماضية إلى بلدان جاذبة لعدد كبير من المشاريع العلمية.
لماذا يغادر العلماء الولايات المتحدة؟
يتجه العلماء لمغادرة الولايات المتحدة بسبب تصاعد التدخلات السياسية في المؤسسات الأكاديمية، وتراجع التمويل الفيدرالي للبحث العلمي، إضافة إلى القيود المفروضة على حرية التعبير والبحث. هذه التغييرات، التي شملت تسريحات جماعية وإعادة هيكلة أقسام أكاديمية حساسة، أثارت قلقاً واسعاً بشأن مستقبل الاستقلال الأكاديمي وجدوى الأبحاث، ودَفعت بالكثير من الباحثين إلى التفكير بجدية في الهجرة إلى بيئات أكثر استقراراً ودعماً للعلم.
فاصلة تاريخية: عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية مقصد العلماء:في أربعينيات القرن الماضي، أصبحت الولايات المتحدة مركزًا عالميًا للعلم والابتكار، مستقطبةً العلماء من جميع أنحاء العالم. هذا التحول بدأ بشكل حاسم خلال الحرب العالمية الثانية، عندما أنشأ الرئيس فرانكلين روزفلت “مكتب البحث والتطوير العلمي” بقيادة فانيفار بوش. تحت إشراف هذا المكتب، تم تطوير تقنيات حاسمة مثل الرادار، البنسلين، والقنبلة الذرية. بعد الحرب، أصدر بوش تقريرًا بعنوان “العلم: الحدود التي لا تنتهي”، دعا فيه إلى تمويل حكومي دائم للبحث العلمي الأساسي. هذا التقرير أسس لإنشاء “مؤسسة العلوم الوطنية” (NSF) في عام 1950، مما رسّخ دور الدولة في دعم البحث العلمي. بالإضافة إلى ذلك، استقطبت الولايات المتحدة العديد من العلماء الأوروبيين، بما في ذلك من خلال “عملية مشبك الورق” التي جلبت علماء ألمان بارزين مثل فيرنر فون براون، مما ساهم في تعزيز برامج الفضاء والصواريخ الأمريكية. هذا الاستثمار المكثف في البحث العلمي، بالتعاون بين الحكومة والجامعات والقطاع الخاص، جعل من الولايات المتحدة “مكة العلماء” لعقود، حيث شهدت البلاد تطورات هائلة في مجالات مثل الحوسبة، الطب، والفضاء.
