• يوليو 22, 2025
  • يوليو 22, 2025

إذاعة الشرق

انطلقت فعاليات الدورة التاسعة والسبعين من مهرجان أفينيون مطلع يوليو 2025 بأجواء استثنائية تضع اللغة العربية في مركز الاحتفاء. بعد أن كانت الإنجليزية ضيفة شرف 2023 والإسبانية في 2024، اختار المدير الفني البرتغالي تياغو رودريغيز العربية لتكون “لغة ضيف الشرف” لهذا العام. ووصَف رودريغيز اللغة العربية بأنها “لغة النور والحوار والمعرفة والتواصل” في وجه من يحاول حبسها في صور نمطية منغلقة. 

إن استضافة العربية، برأيه، هي خيار لمواجهة التعقيدات السياسية بدل تجنبها، والثقة بقدرة الفنون على إيجاد مساحات للنقاش والتفاهم. يحمل المهرجان شعار “معاً” المقتبس من قصيدة لمحمود درويش، بما يعكس روح الانفتاح والتضامن الثقافي في هذه الدورة. وقد تجلّى ذلك فعلياً في برنامج يخصص حوالي ثلث عروض المهرجان لفنانين وأعمال مرتبطة بالعالم العربي – إذ تضمّن برنامج 2025 ما لا يقل عن 12 عرضاً ونشاطاً عربياً من أصل 42 عملاً مشاركاً. هذه البادرة الثقافية الفريدة كانت بمثابة انفتاح من مهرجان أوروبي عريق على الثقافة العربية ماضياً وحاضراً. 

بانوراما العروض العربية

امتد الحضور العربي على خشبات أفينيون هذا العام عبر باقة غنية من العروض المسرحية والراقصة والموسيقية. من المغرب، قدّمت المصممة بشرى ويزغن عرضاً أدائياً تشاركياً ينهل من تقاليد فنون الأداء الشعبية. ومن لبنان أتى المخرج والمصمم علي شحرور بعرضه “عندما رأيت البحر” الذي يدمج الرقص والموسيقى والسرد المسرحي لمنح صوتٍ لتجارب إنسانية مهمّشة. على جانب آخر، قدّم الثنائي التونسي سلمى وسفيان عويصي (ويسي) لوحة راقصة تستلهم تراث المغرب العربي ضمن قالب معاصر، فيما استكشف المغربي رضوان مريزيقا في عرضه عالم الصحراء بوصفها مساحة حركية وروحية. أما في حقل المسرح، فبرزت تمارا السعدي – المخرجة الفرنسية العراقية – بعمل جديد (“Taire”) يعبّر عن هوية جيل الشتات، إلى جانب الكاتب السوري وائل قدور الذي قدّم قراءة مسرحية معاصرة . وأسهم المخرج الفلسطيني بشار مرقص بمسرحيته الجديدة “حاضر يا أبي” (Yes Daddy) بالتعاون مع الممثلة خلود باسل، حاملاً نبض المسرح الفلسطيني إلى المنصة الأوروبية. على الرغم من قلة العروض الناطقة بالعربية فعلياً ضمن البرنامج، فإن حضور أصوات مسرحية عربية مثل مرقص والسعدي وقدور شكّل إضافة بالغة القيمة في مشهد يغلب عليه التعبير الحركي هذا العام.

في جانب الموسيقى، كان الجمهور على موعد مع ليلة استثنائية في ساحة الشرف بقصر البابوات: عرض “صوت النساء – تحية لكوكب الشرق أم كلثوم” بمناسبة مرور 50 عاماً على رحيل الأسطورة المصرية. هذا العمل الضخم – إنتاج مشترك بين مهرجان أفينيون ومعهد العالم العربي – حمل طابعاً احتفالياً معاصرًا. قاد المشروع الموسيقي اللبناني زيد حمدان وضمّ أصواتاً عربية وفرنسية بارزة، منها الفنانتان سعاد ماسي وكاميليا جوردانا، إلى جانب مغنين وعازفين من مصر ولبنان وتونس والمغرب. قدّمت هذه الأمسية رؤية حداثية لتراث أم كلثوم؛ فلم تكن مجرد أداء كلاسيكي لأغانيها، بل جسر فني يربط بين التقليد والحداثة عبر مزج المقامات الشرقية مع الأنماط الإلكترونية والأسلوب المعاصر. واللافت أن أم كلثوم لم تُطرح كأيقونة ماضية فحسب، بل استُحضرت كرمز حيّ تتقاطع عنده الذاكرة الجماعية مع ابتكارات الجيل الجديد.

جلسة حوارية من المهرجان

كما شهد المهرجان فعالية “نور” وهي ليلة عربية خاصة احتفت بالشعر والموسيقى والأداء بلغات وأساليب متعددة. هذه الأمسية، التي أقيمت بتعاون المهرجان مع معهد العالم العربي في باريس وبدعم مركز أبوظبي للغة العربية، جمعت 23 شخصية من شعراء وموسيقيين وممثلين من مختلف الدول العربية. تنقّل الجمهور خلالها بين عالم المعلقات الجاهلية وأصداء موسيقى الراي الحديثة، ومن ألحان المقام الكلاسيكي إلى إيقاعات الراب العربي المعاصر. لقد كانت “ليلة النور” هذه بمثابة معرض حيّ لتنوع اللغة العربية ثقافياً وجغرافياً – قصائد بالفصحى واللهجات، أنغام صوفية وأندلسية، وفيديوهات أدائية – في توليفة تعكس قدرة العربية على احتضان الماضي والحاضر معاً.

وإلى جانب العروض الفنية، امتد الاحتفاء بالعربية إلى المجال الفكري عبر سلسلة ندوات وحوارات ضمن “مقاهي الأفكار”. استضاف المهرجان أدباء ونقاداً من أمثال الروائية ليلى سليماني (فرنسا/المغرب) والصحافي نبيل واكيم (لبنان) والمؤرخ إلياس صنبر (فلسطين) في نقاشات حول اللغة والهوية والترجمة وصورة الثقافة العربية في الغرب. هذا الحضور الفكري أكد أن العربية في أفينيون ليست مجرد موضوع جمالي، بل منطلق لحوار حضاري حول قضايا التمثيل الثقافي والتواصل بين الضفتين. وللمرة الأولى، انطلقت أنشطة المهرجان الرسمي ومهرجان “أوف” الموازي في اليوم نفسه، مما ضاعف من زخم المشهد وأتاح فرصة أوسع للعروض العربية المستقلة للوصول إلى جمهور عالمي.

رباعية العروسة، للفنان التونسي سفيان ويسي، في أفينيون هذا العام ٢٠٢٥

عروض بين الإبداع والجدل

لم يكن التركيز على الثقافة العربية يعني انسجاماً فنياً مطلقاً؛ فقد تنوعت التجارب من حيث الأسلوب ودرجة استيعاب الجمهور لها. جاءت ضربة البداية جريئة مع عرض الافتتاح “نوت – NÔT” لمصممة الرقص مارلين مونتيرو فريتاس (من الرأس الأخضر)، والذي استلهم أجواء “ألف ليلة وليلة” بقراءة حركية بصرية خارجة عن المألوف. في باحة قصر البابوات، ظهر ثمانية راقصين بأقنعة ذات عيون واسعة وفساتين سوداء ومآزر بيضاء، يتحركون كدمى ميكانيكية وكأنهم في كرنفال غرائبي. هذا العرض الراقص الهزلي قوبل بردود فعل متباينة من الجمهور: بعض المشاهدين غادروا القاعة مبكراً ومنهم من أطلق صيحات استهجان، بينما صفق آخرون بحرارة إعجاباً بالتجربة. تباينت قراءات النقاد أيضاً، حيث رأى البعض أن العمل يجسد روح شهرزاد وحكاياتها بأسلوب معاصر جريء، فيما اعتبره آخرون استعادة لطقوس كرنفالية من بيئة فريتاس الخاصة ربما على حساب الجوهر الحكائي المنتظر. هكذا افتتح المهرجان بسجال فني كشف عن استعداد المنصة لتحمّل جرأة التجريب وتقبل الاختلاف في تذوق الجماليات.

في المقابل، حمل عرض “عندما رأيت البحر” لعلي شحرور طابعاً مختلفاً تماماً، إذ قدم لحظة شعرية هادئة وقوية في آن. على الخشبة، وقفت سيدتان إثيوبيتان تعملان في الخدمة المنزلية برفقة امرأة لبنانية من أصل إثيوبي، ليروين عبر الحديث والغناء والرقص قصصهن عن الاغتراب والمعاناة والأمل. العمل يكرّم ذكرى العاملات المهاجرات اللواتي سقطن قتلى أو شُرّدن خلال الحرب التي دارت رحاها لعامٍ كامل بين إسرائيل ولبنان وانتهت بوقف لإطلاق النار في نوفمبر الماضي. هنا تُضاء خشبة المسرح بحقائق مؤلمة عن واقع نظام الكفالة واستغلال العاملات، حيث يسلط شحرور الضوء على تجربة إنسانية غالباً ما تُهمّش في السرديات السائدة. الموسيقى كان لها دور محوري في امتصاص الألم وتحويله إلى طاقة تحررية؛ فقد صدحت على المسرح صوت المغنية السورية لين أديب بمصاحبة عازف بزق لبناني، مما أضفى حضوراً روحياً يوازن ثقل الحكايات الواقعية. أشاد متابعون بقدرة العرض على تحويل المعاناة إلى لغة فنية عالمية، حيث احتفى بقوة النساء على التحمل وتحويل تلك القوة إلى سبيل للتحلر. بهذا المزج بين التوثيق الشعري والأداء الجسدي، نجح شحرور في إبداع لحظة مسرحية “هادئة في ظاهرها لكنها عميقة سياسياً” تطرح أسئلة حول الحرب والهجرة والعدالة الاجتماعية – وكل ذلك بلغات متعددة، من العربية إلى الأمهرية والإنجليزية، على خشبة فرنكوفونية.

من العرض السعودي في مهرجان أفينيون

 

 

جسور سعودية وإماراتية 

ضمن التركيز على الحضور العربي، كان لافتاً أيضاً مساهمة دول الخليج في هذه الدورة. فقد شاركت هيئة المسرح والفنون الأدائية السعودية رسمياً لأول مرة في مهرجان أفينيون، من خلال عرض مسرحي بعنوان “طوق” من إخراج فهد الدوسري، إلى جانب مجموعة من عروض الفنون الشعبية السعودية (مثل الخطفة والعرضة التقليدية). شكّلت هذه المشاركة نافذة على التراث الأدائي للسعودية ورغبة في تقديم المشهد المسرحي السعودي المعاصر لجمهور دولي واسع. وأكد المخرج فهد الدوسري لإذاعة الشرق بأن الحركة المسرحية السعودية تتقدم بخطى حثيثة  وأن هذه المشاركة تأتي لتأكد اتساع المشهد الثقافي السعودي والآفاق التي ستفتح أمامه، مع الأخذ بالعلم أن مشاركة هذه المسرحية ستشهد عروضاً أخرى في مهرجانات عالمية أخرى . وشدد الدوسري على أهمية وجوده مع الفرقة  في أفينيون واصفاً المهرجان بأنه “نافذة إلى العالم” بالنسبة للمسرح السعودي. وأكد على أهمية لغة المسرح التي تعبر للحدود وتوصل رسائل وأفكار إلى مختلف الثقافات دون عائق. 

وكان استقبال جمهور أفينيون حافلاً لهذه العروض التي وخاصة العروض الفنون الأدائية، التي خرجت إلى الشارع من أجل الاحتفاء بالجمهور ودعوته للدخول إلى مكان العرض، فعزفت الموسيقى التقليدية في شوارع أفينون ، ودعت الجمهور للدخول إلى مكان تقديم العروض. حيث تبعهم الجمهور لمتابعة العرض في فناء متحف أنجلادون (Musée Angladon courtyard)، ليتعرفوا على مجموعة غينة من الفنون الأدائية السعودية. 

من عروض فنون الأداء السعودية المشاركة في المهرجان

من جهة أخرى، تجلّى الحضور الإماراتي عبر الدور المحوري لـمركز أبوظبي للغة العربية في فعاليات اللغة العربية بالمهرجان. فالمركز، التابع لدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، دخل كشريك رئيسي بالتعاون مع معهد العالم العربي لتنظيم البرنامج الثقافي الخاص باحتفاء أفينيون بالعربية. وحول هذه المشاركة، صرّح لإذاعة الشرق الدكتور علي بن تميم رئيس مركز أبوظبي للغة العربية قائلاً: “إن أعظم ما يمكن أن تقدمه أي حضارة للعالم هو قدرتها على فتح نوافذ الحوار وبناء الجسور بين الشعوب”. مؤكداً ابن تميم أن اللغة هي التعبير الأصيل عن هوية الثقافة وحاملة رسالة التنوع، مشدداً على حرص المركز على الحضور في الفعاليات الدولية الكبرى لتعزيز مكانة اللغة العربية عالمياً. وكان دعم ورؤية أبوظبي الثقافية  سبباً لتحقيق ليالي مثل أمسية أم كلثوم وليلة “نور” الشعرية الموسيقية ضمن برنامج رسمي في قلب فرنسا. يعكس ذلك التزاماً إماراتياً بمدّ جسور الحوار الثقافي عبر اللغة العربية، وترجمة عملية لشعار المهرجان “معاً” من خلال التعاون العربي-الفرنسي. 

يتجاوز حضور العربية في أفينيون 2025 مجرد العروض الفنية ليحمل أبعاداً رمزية وثقافية عميقة. فقد قُدمت العربية للجمهور باعتبارها مدخلاً إلى فضاء ثقافي عالمي غني ومتشابك. لتُكرَّم كلغة معاصرة نابضة بالحياة، كيف لا وهي لغة لها مكانتها في فرنسا والعالم. وكما قال مدير المهرجان، فإن دعوة اللغة العربية إلى أفينيون هي “مواجهة مباشرة مع الواقع السياسي” والإيمان بقوة الفن على خلق مساحة مشتركة للتحاور – ورسالة بليغة في ظل سياقات عالمية مشحونة.

إذاعة الشرق

انطلقت فعاليات الدورة التاسعة والسبعين من مهرجان أفينيون مطلع يوليو 2025 بأجواء استثنائية تضع اللغة العربية في مركز الاحتفاء. بعد أن كانت الإنجليزية ضيفة شرف 2023 والإسبانية في 2024، اختار المدير الفني البرتغالي تياغو رودريغيز العربية لتكون “لغة ضيف الشرف” لهذا العام. ووصَف رودريغيز اللغة العربية بأنها “لغة النور والحوار والمعرفة والتواصل” في وجه من يحاول حبسها في صور نمطية منغلقة. 

إن استضافة العربية، برأيه، هي خيار لمواجهة التعقيدات السياسية بدل تجنبها، والثقة بقدرة الفنون على إيجاد مساحات للنقاش والتفاهم. يحمل المهرجان شعار “معاً” المقتبس من قصيدة لمحمود درويش، بما يعكس روح الانفتاح والتضامن الثقافي في هذه الدورة. وقد تجلّى ذلك فعلياً في برنامج يخصص حوالي ثلث عروض المهرجان لفنانين وأعمال مرتبطة بالعالم العربي – إذ تضمّن برنامج 2025 ما لا يقل عن 12 عرضاً ونشاطاً عربياً من أصل 42 عملاً مشاركاً. هذه البادرة الثقافية الفريدة كانت بمثابة انفتاح من مهرجان أوروبي عريق على الثقافة العربية ماضياً وحاضراً. 

بانوراما العروض العربية

امتد الحضور العربي على خشبات أفينيون هذا العام عبر باقة غنية من العروض المسرحية والراقصة والموسيقية. من المغرب، قدّمت المصممة بشرى ويزغن عرضاً أدائياً تشاركياً ينهل من تقاليد فنون الأداء الشعبية. ومن لبنان أتى المخرج والمصمم علي شحرور بعرضه “عندما رأيت البحر” الذي يدمج الرقص والموسيقى والسرد المسرحي لمنح صوتٍ لتجارب إنسانية مهمّشة. على جانب آخر، قدّم الثنائي التونسي سلمى وسفيان عويصي (ويسي) لوحة راقصة تستلهم تراث المغرب العربي ضمن قالب معاصر، فيما استكشف المغربي رضوان مريزيقا في عرضه عالم الصحراء بوصفها مساحة حركية وروحية. أما في حقل المسرح، فبرزت تمارا السعدي – المخرجة الفرنسية العراقية – بعمل جديد (“Taire”) يعبّر عن هوية جيل الشتات، إلى جانب الكاتب السوري وائل قدور الذي قدّم قراءة مسرحية معاصرة . وأسهم المخرج الفلسطيني بشار مرقص بمسرحيته الجديدة “حاضر يا أبي” (Yes Daddy) بالتعاون مع الممثلة خلود باسل، حاملاً نبض المسرح الفلسطيني إلى المنصة الأوروبية. على الرغم من قلة العروض الناطقة بالعربية فعلياً ضمن البرنامج، فإن حضور أصوات مسرحية عربية مثل مرقص والسعدي وقدور شكّل إضافة بالغة القيمة في مشهد يغلب عليه التعبير الحركي هذا العام.

في جانب الموسيقى، كان الجمهور على موعد مع ليلة استثنائية في ساحة الشرف بقصر البابوات: عرض “صوت النساء – تحية لكوكب الشرق أم كلثوم” بمناسبة مرور 50 عاماً على رحيل الأسطورة المصرية. هذا العمل الضخم – إنتاج مشترك بين مهرجان أفينيون ومعهد العالم العربي – حمل طابعاً احتفالياً معاصرًا. قاد المشروع الموسيقي اللبناني زيد حمدان وضمّ أصواتاً عربية وفرنسية بارزة، منها الفنانتان سعاد ماسي وكاميليا جوردانا، إلى جانب مغنين وعازفين من مصر ولبنان وتونس والمغرب. قدّمت هذه الأمسية رؤية حداثية لتراث أم كلثوم؛ فلم تكن مجرد أداء كلاسيكي لأغانيها، بل جسر فني يربط بين التقليد والحداثة عبر مزج المقامات الشرقية مع الأنماط الإلكترونية والأسلوب المعاصر. واللافت أن أم كلثوم لم تُطرح كأيقونة ماضية فحسب، بل استُحضرت كرمز حيّ تتقاطع عنده الذاكرة الجماعية مع ابتكارات الجيل الجديد.

جلسة حوارية من المهرجان

كما شهد المهرجان فعالية “نور” وهي ليلة عربية خاصة احتفت بالشعر والموسيقى والأداء بلغات وأساليب متعددة. هذه الأمسية، التي أقيمت بتعاون المهرجان مع معهد العالم العربي في باريس وبدعم مركز أبوظبي للغة العربية، جمعت 23 شخصية من شعراء وموسيقيين وممثلين من مختلف الدول العربية. تنقّل الجمهور خلالها بين عالم المعلقات الجاهلية وأصداء موسيقى الراي الحديثة، ومن ألحان المقام الكلاسيكي إلى إيقاعات الراب العربي المعاصر. لقد كانت “ليلة النور” هذه بمثابة معرض حيّ لتنوع اللغة العربية ثقافياً وجغرافياً – قصائد بالفصحى واللهجات، أنغام صوفية وأندلسية، وفيديوهات أدائية – في توليفة تعكس قدرة العربية على احتضان الماضي والحاضر معاً.

وإلى جانب العروض الفنية، امتد الاحتفاء بالعربية إلى المجال الفكري عبر سلسلة ندوات وحوارات ضمن “مقاهي الأفكار”. استضاف المهرجان أدباء ونقاداً من أمثال الروائية ليلى سليماني (فرنسا/المغرب) والصحافي نبيل واكيم (لبنان) والمؤرخ إلياس صنبر (فلسطين) في نقاشات حول اللغة والهوية والترجمة وصورة الثقافة العربية في الغرب. هذا الحضور الفكري أكد أن العربية في أفينيون ليست مجرد موضوع جمالي، بل منطلق لحوار حضاري حول قضايا التمثيل الثقافي والتواصل بين الضفتين. وللمرة الأولى، انطلقت أنشطة المهرجان الرسمي ومهرجان “أوف” الموازي في اليوم نفسه، مما ضاعف من زخم المشهد وأتاح فرصة أوسع للعروض العربية المستقلة للوصول إلى جمهور عالمي.

رباعية العروسة، للفنان التونسي سفيان ويسي، في أفينيون هذا العام ٢٠٢٥

عروض بين الإبداع والجدل

لم يكن التركيز على الثقافة العربية يعني انسجاماً فنياً مطلقاً؛ فقد تنوعت التجارب من حيث الأسلوب ودرجة استيعاب الجمهور لها. جاءت ضربة البداية جريئة مع عرض الافتتاح “نوت – NÔT” لمصممة الرقص مارلين مونتيرو فريتاس (من الرأس الأخضر)، والذي استلهم أجواء “ألف ليلة وليلة” بقراءة حركية بصرية خارجة عن المألوف. في باحة قصر البابوات، ظهر ثمانية راقصين بأقنعة ذات عيون واسعة وفساتين سوداء ومآزر بيضاء، يتحركون كدمى ميكانيكية وكأنهم في كرنفال غرائبي. هذا العرض الراقص الهزلي قوبل بردود فعل متباينة من الجمهور: بعض المشاهدين غادروا القاعة مبكراً ومنهم من أطلق صيحات استهجان، بينما صفق آخرون بحرارة إعجاباً بالتجربة. تباينت قراءات النقاد أيضاً، حيث رأى البعض أن العمل يجسد روح شهرزاد وحكاياتها بأسلوب معاصر جريء، فيما اعتبره آخرون استعادة لطقوس كرنفالية من بيئة فريتاس الخاصة ربما على حساب الجوهر الحكائي المنتظر. هكذا افتتح المهرجان بسجال فني كشف عن استعداد المنصة لتحمّل جرأة التجريب وتقبل الاختلاف في تذوق الجماليات.

في المقابل، حمل عرض “عندما رأيت البحر” لعلي شحرور طابعاً مختلفاً تماماً، إذ قدم لحظة شعرية هادئة وقوية في آن. على الخشبة، وقفت سيدتان إثيوبيتان تعملان في الخدمة المنزلية برفقة امرأة لبنانية من أصل إثيوبي، ليروين عبر الحديث والغناء والرقص قصصهن عن الاغتراب والمعاناة والأمل. العمل يكرّم ذكرى العاملات المهاجرات اللواتي سقطن قتلى أو شُرّدن خلال الحرب التي دارت رحاها لعامٍ كامل بين إسرائيل ولبنان وانتهت بوقف لإطلاق النار في نوفمبر الماضي. هنا تُضاء خشبة المسرح بحقائق مؤلمة عن واقع نظام الكفالة واستغلال العاملات، حيث يسلط شحرور الضوء على تجربة إنسانية غالباً ما تُهمّش في السرديات السائدة. الموسيقى كان لها دور محوري في امتصاص الألم وتحويله إلى طاقة تحررية؛ فقد صدحت على المسرح صوت المغنية السورية لين أديب بمصاحبة عازف بزق لبناني، مما أضفى حضوراً روحياً يوازن ثقل الحكايات الواقعية. أشاد متابعون بقدرة العرض على تحويل المعاناة إلى لغة فنية عالمية، حيث احتفى بقوة النساء على التحمل وتحويل تلك القوة إلى سبيل للتحلر. بهذا المزج بين التوثيق الشعري والأداء الجسدي، نجح شحرور في إبداع لحظة مسرحية “هادئة في ظاهرها لكنها عميقة سياسياً” تطرح أسئلة حول الحرب والهجرة والعدالة الاجتماعية – وكل ذلك بلغات متعددة، من العربية إلى الأمهرية والإنجليزية، على خشبة فرنكوفونية.

من العرض السعودي في مهرجان أفينيون

 

 

جسور سعودية وإماراتية 

ضمن التركيز على الحضور العربي، كان لافتاً أيضاً مساهمة دول الخليج في هذه الدورة. فقد شاركت هيئة المسرح والفنون الأدائية السعودية رسمياً لأول مرة في مهرجان أفينيون، من خلال عرض مسرحي بعنوان “طوق” من إخراج فهد الدوسري، إلى جانب مجموعة من عروض الفنون الشعبية السعودية (مثل الخطفة والعرضة التقليدية). شكّلت هذه المشاركة نافذة على التراث الأدائي للسعودية ورغبة في تقديم المشهد المسرحي السعودي المعاصر لجمهور دولي واسع. وأكد المخرج فهد الدوسري لإذاعة الشرق بأن الحركة المسرحية السعودية تتقدم بخطى حثيثة  وأن هذه المشاركة تأتي لتأكد اتساع المشهد الثقافي السعودي والآفاق التي ستفتح أمامه، مع الأخذ بالعلم أن مشاركة هذه المسرحية ستشهد عروضاً أخرى في مهرجانات عالمية أخرى . وشدد الدوسري على أهمية وجوده مع الفرقة  في أفينيون واصفاً المهرجان بأنه “نافذة إلى العالم” بالنسبة للمسرح السعودي. وأكد على أهمية لغة المسرح التي تعبر للحدود وتوصل رسائل وأفكار إلى مختلف الثقافات دون عائق. 

وكان استقبال جمهور أفينيون حافلاً لهذه العروض التي وخاصة العروض الفنون الأدائية، التي خرجت إلى الشارع من أجل الاحتفاء بالجمهور ودعوته للدخول إلى مكان العرض، فعزفت الموسيقى التقليدية في شوارع أفينون ، ودعت الجمهور للدخول إلى مكان تقديم العروض. حيث تبعهم الجمهور لمتابعة العرض في فناء متحف أنجلادون (Musée Angladon courtyard)، ليتعرفوا على مجموعة غينة من الفنون الأدائية السعودية. 

من عروض فنون الأداء السعودية المشاركة في المهرجان

من جهة أخرى، تجلّى الحضور الإماراتي عبر الدور المحوري لـمركز أبوظبي للغة العربية في فعاليات اللغة العربية بالمهرجان. فالمركز، التابع لدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، دخل كشريك رئيسي بالتعاون مع معهد العالم العربي لتنظيم البرنامج الثقافي الخاص باحتفاء أفينيون بالعربية. وحول هذه المشاركة، صرّح لإذاعة الشرق الدكتور علي بن تميم رئيس مركز أبوظبي للغة العربية قائلاً: “إن أعظم ما يمكن أن تقدمه أي حضارة للعالم هو قدرتها على فتح نوافذ الحوار وبناء الجسور بين الشعوب”. مؤكداً ابن تميم أن اللغة هي التعبير الأصيل عن هوية الثقافة وحاملة رسالة التنوع، مشدداً على حرص المركز على الحضور في الفعاليات الدولية الكبرى لتعزيز مكانة اللغة العربية عالمياً. وكان دعم ورؤية أبوظبي الثقافية  سبباً لتحقيق ليالي مثل أمسية أم كلثوم وليلة “نور” الشعرية الموسيقية ضمن برنامج رسمي في قلب فرنسا. يعكس ذلك التزاماً إماراتياً بمدّ جسور الحوار الثقافي عبر اللغة العربية، وترجمة عملية لشعار المهرجان “معاً” من خلال التعاون العربي-الفرنسي. 

يتجاوز حضور العربية في أفينيون 2025 مجرد العروض الفنية ليحمل أبعاداً رمزية وثقافية عميقة. فقد قُدمت العربية للجمهور باعتبارها مدخلاً إلى فضاء ثقافي عالمي غني ومتشابك. لتُكرَّم كلغة معاصرة نابضة بالحياة، كيف لا وهي لغة لها مكانتها في فرنسا والعالم. وكما قال مدير المهرجان، فإن دعوة اللغة العربية إلى أفينيون هي “مواجهة مباشرة مع الواقع السياسي” والإيمان بقوة الفن على خلق مساحة مشتركة للتحاور – ورسالة بليغة في ظل سياقات عالمية مشحونة.

مهرجان أفينيون 2025: العربية ضيفة شرف وحضور عربي متألق