• أكتوبر 10, 2025
  • أكتوبر 10, 2025

راديو أوريان-إذاعة الشرق

من مدينة جيولا في شرق المجر كانت في ال5  من يناير (كانون الثاني)  كان مهد الفائز بجائزة نوبل للآداب لعام 2025، الكاتب لاسلو كراسنا هو كاي 1954 ، في ظل اضطرابات عصر الحرب الباردة وهيمنة حزب شيوعي على البلاد. 

من دراسة القانون في البداية سيتحول  بعد ذلك إلى دراسة الأدب المجري والتاريخ في جامعة أوتفوش لوراند في بودابست، ليغلب شغفه بالكتابة على مساره الأكاديمي. بعد تخرجه عمل في دار نشر حكومية حيث صقل أسلوبه السردي المتفرّد، قبل أن يتفرغ للكتابة الإبداعية منذ مطلع الثمانينات.

في العام 1985 صدرت أولى روايته «ساتانتانغو» والتي (ترجمت إلى العربية إلى «تانغو الخراب»)، التي حققت نجاحًا أدبيًا كبيراً في المجر، معتبرة حدثًا فارقًا في الأدب المجري آنذاك. يصوّر كراسناهوركاي في هذه الرواية حياة مجموعة من الفلاحين الفقراء في مزرعة جماعية منهارة قبيل سقوط الشيوعية، وسط جو من الصمت والترقب في قرية نائية يغمرها الوحل واليأس. منذ صدور هذه الرواية  احتل أ كراسناهوركاي مكانة بارزة في الأدب المجري المعاصر، وبدأت أعماله تشق طريقها إلى العالمية مع ترجمتها لأكثر من ثلاثين لغة. ليسافر بعدها الكاتب إلى برلين الغربية في عام 1987 بمنحة أدبية هاربًا من قيود الرقابة في مجر  يانوش كادار الزعيم الشيوعي،  ليبدأ بعدها مرحلة في  التسعينات في أسفار طويلة شملت كلا من أوروبا الغربية والولايات المتحدة وآسيا (اليابان والصين ومنغوليا)، والمتابع لأعمال كراسناهوركاي سيعرف كيف أثرت هذه الرحلات بعمق في رؤيته الفكرية وموضوعاته الأدبية.

تتالت إبداعات كراسناهوركاي خلال العقود الأربعة الماضية، فصدر له ثمان روايات طويلة وخمس روايات قصيرة، إضافة إلى مجموعتين قصصيتين وعدّة نصوص تأملية وسيناريوهات سينمائية. روايته الثانية «كآبة المقاومة» (1989) — ترجمت أيضًا بعنوان «مقاومة الخراب» — عززت سمعته ككاتب، حتى دفعت الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ لتصفه بأنه «سيد الأدب الأبوكاليبسي»، في إشارة إلى فرادة رؤيته القائمة على استشراف نهايات كارثية للعالم. حصد كراسناهوركاي أرفع الجوائز الأدبية في بلاده، ونال جائزة مان بوكر الدولية عام 2015 عن مجمل أعماله ليكون أول مجري يفوز بها. طالما رُشّح اسمه لجائزة نوبل للآداب، إلى أن توّجت الأكاديمية السويدية مسيرته بمنحه جائزة نوبل لعام 2025 تقديرًا لـ«إبداعه الآسر ورؤيته الملحمية التي تؤكد قوة الفن في قلب الرعب الوجودي». بذلك أعاد كراسناهوركاي الأدب المجري إلى صدارة المشهد العالمي كخلفٍ معاصر لمواطنه إمرِه كيرتِس (نوبل 2002).

أسلوب سردي فريد وكابوسي

لاسلو كراسناهوركاي أسلوب  سردي  فريد  يميّزه عن أي كاتب آخر في جيله. تُنسج رواياته عبر جمل طويلة متدفقة تتشابك داخل فقرات قد تمتد لصفحات كاملة دون انقطاع. يتجنب كراسناهوركاي علامات الترقيم التقليدية إلى حد كبير، إذ يندر أن يضع نقطة في نهاية جمله المترابطة، وقد علق مازحًا بأن «الفاصلة المنقوطة تنتمي إلى الله» في إشارة إلى إيمانه بجملة متصلة مسترسلة بلا توقف. هذا التدفق السردي المستمر أقرب ما يكون إلى تيار وعي أو مونولوغ داخلي، يجرف القارئ في دوامة من الأفكار والمشاهد.

تعكس جُمل كراسناهوركاي المتعرجة والمتداخلة تأملًا فلسفيًا عميقًا وتفاصيل دقيقة حد الهوس في وصف العالم. يوظّف التكرار والبناء التركيبي المعقّد والإدراج الاعتراضي ليخلق إيقاعًا سرديًا أشبه بمعزوفة أدبية طويلة. وبرغم صعوبة هذا الأسلوب وطبيعته المرهِقة، إلا أنه يحمل متعة فكرية نادرة لمن يصبر عليه، إذ تمزج رواياته بين التأملات الفلسفية والسرد التخييلي بلغة شعرية آسرة.

كثيرًا ما تُقارَن أعماله بكبار أدباء الحداثة الأوروبية: وجد النقاد صلات بين عالمه السردي وعوالم فرانز كافكا وصامويل بيكيت وتوماس برنارد، بل ورأى بعضهم أنه سليل أولئك الكتّاب بحكم التقائه معهم في السخرية والعبث والأسلوب التجريبي. لم تتردد سوزان سونتاغ في الإشادة به بقولها إنه «معلم مجري معاصر في أجواء نهاية العالم، يستحق مقارنته بنيقولاي غوغول وهيرمان ملفيل». أما الناقد البريطاني جيمس وود فقد وصف قراءة روايته «حرب وحرب» (1999) بأنها «واحدة من أكثر التجارب إقلاقًا التي عرفتها كقارئ.

هكذا رسّخ كراسناهوركاي أسلوبه الخاص كـسيد الجملة الطويلة في عصرنا، وجعل من الكتابة رحلة شاقة تتطلب من القارئ تفاعلًا ذهنيًا وصبرًا غير معتاد، لكن جزاءها اكتشاف آفاق أدبية غير مطروقة.

عوالم كابوسية ورؤية فلسفية قاتمة

تتميز أعمال كراسناهوركاي بطابع كابوسي ديستوبي يخيم على أجوائها، حيث الخراب والفوضى هما الحالة الطبيعية للعالم. يستكشف الكاتب في رواياته أسئلة فلسفية ووجودية عميقة تتعلق بعبثية الحياة والاغتراب والعنف والسلطة، في عالم يبدو على شفير الفناء. شخصياته غالبًا ما تكون مسحوقة تحت وطأة واقع فاسد وكئيب، تعيش قلقًا وجوديًا دائمًا متجذرًا في أعماقها يسمم حياتها. نجدها مشلولة الفعل والإرادة، تلجأ أحيانًا إلى الخنوع أو الغيبيّة أو تنغمس في أعمال تدميرية وفوضوية. إنها شخصيات معلَّقة بين اليأس والرجاء، تتخبط في مواجهة قوى أكبر منها؛ أفراد ضعفاء في مواجهة قطيع أو سلطة جائرة، وهي ثنائية تتكرر بجلاء في رواياته.

في روايتيه الأبرز «تانغو الخراب» و«كآبة المقاومة»يتجلى هذا العالم الكابوسي في أوضح صوره. في تانغو الخراب – ذات البنية الدائرية المحكمة التي تحاكي خطوات التانغو – يقبع سكان قرية موحلة بائسة في انتظار خلاص ما بعد انهيار النظام. يظهر فجأة شخصان محتالان كان يُظن أنهما ماتا، فينظر إليهما القرويون كرسولين للخلاص أو نذيري نهاية. سرعان ما ينقاد الجميع وراء ألاعيبهما التي تغرقهم في دوّامة من الوهم، مستغلين حاجة الجماعة لتصديق معجزة تنقذهم من بؤسهم.

أما «كآبة المقاومة» فتدور أحداثها في بلدة مجرية صغيرة يخيّم عليها التوتر والخوف، تبلغ ذروتها مع وصول سيرك غامض يعرض جثة حوت عملاق محنّط. هذا المشهد المهيب يحرّك أسوأ الغرائز في المجتمع، فتندلع موجة عنف وتخريب تعم البلدة والبلاد بأسرها، ويعجز الجيش عن احتواء الفوضى الناتجة. في نهاية المطاف يستغل نظام استبدادي حالة الهلع هذه لينقلب على الحكم ويقيم ديكتاتورية حديدة.

يقدم الكاتب هذه الأحداث في مشاهد أقرب إلى الكابوس: أجواء مشؤومة، شخصيات مشوّهة أخلاقيًا، وضياع تام للقيم وسط انتشار العفن والقذارة والعنف. كأنما يطرح كراسناهوركاي رؤية مفادها أن البشرية تعيش في حقبة ما بعد انهيار النظام القديم، حيث ينهض الخراب لابتلاع كل شيء ولا يبقى للأفراد إلا الاستسلام لبؤس مقيم أو انتظار مخلّص لن يأتي.

مع تقدمه في التجربة، توسعت رؤى كراسناهوركاي الفكرية لتشمل نفحات تأملية وروحانية استلهمها من رحلاته إلى الشرق الأقصى. تجلّى ذلك في أعمال مثل روايته «من الشمال جبل، من الجنوب بحيرة، من الغرب دروب، من الشرق نهر» (2003) التي حملت نبرة صوفية في البحث عن “حديقة سرية” في كيوتو، وكذلك مجموعته «سيوبو زارت الأرض» (2008) التي تأملت دور الجمال والفن في عالم زائل عبر رؤية ميتافيزيقية عميقة.

وعلى الرغم من هذه الانعطافات التأملية، يبقى الجوهر في أدب كراسناهوركاي هو التأمل في مصير الإنسان داخل عالم آيل إلى الخراب، حيث «الجمال المؤلم» هو ما يبقى لأولئك القادرين على مواجهة الحقيقة المظلمة. وقد قال الكاتب عن نفسه يوم فوزه ببوكر العالمية: «ربما أكتب روايات لهؤلاء القرّاء الذين يحتاجون إلى جمال الجحيم»، في تلخيص بليغ لوظيفته الإبداعية: سبر أغوار العتمة بحثًا عن ومضة جمال في قلبها.

تأثيره على الأدب العالمي وشراكة السينما

يُعدّ كراسناهوركاي اليوم أحد أبرز الأصوات الأدبية في أوروبا المعاصرة، وصوتًا فريدًا يخاطب القلق الإنساني العميق في عصرنا. استطاع أن يرسخ حضور الأدب المجري عالميًا ويجد قراءً جددًا بلغات وثقافات مختلفة، بفضل خصوصية تجربته التي تمزج المحلّي بالعالمي. تأثر كراسناهوركاي بكبار الأدباء والفلاسفة؛ يصفه النقاد بأنه سليل كافكا وبرنارد ليس فقط لتأثره بأساليبهم بل لتمثّله قلقهم الوجودي وسخريتهم السوداء. وفي المقابل، أثر هو نفسه في الكثير من الكتّاب والفنانين حول العالم، إذ بات اسمه مرادفًا للسرد التجريبي الكابوسي.

لم يقتصر تأثير كراسناهوركاي على الأدب المكتوب فحسب، بل امتد إلى الفن السابع عبر شراكة إبداعية طويلة الأمد مع المخرج المجري الشهير بيلا تار. بدأ هذا التعاون منذ اقتباس روايته الأولى ساتانتانغو إلى فيلم سينمائي عام 1994 بالعنوان نفسه، في ملحمة سينمائية سوداوية الملامح تجاوزت مدتها سبع ساعات. يُعد فيلم «ساتانتانغو» اليوم علامة فارقة في تاريخ السينما الفنية، حيث نجح تار في ترجمة جمل كراسناهوركاي الطويلة ومشاهده البطيئة إلى لقطات طويلة وتأملية جسّدت الخراب والزمن المتحلل بصريًا.

تواصلت هذه الشراكة مع فيلم «تناغمات فيركمايستر» (2000) المقتبس عن رواية كآبة المقاومة، وفيه نقل تار على الشاشة أجواء البلدة المجرية المضمخة بالفوضى والخوف إثر وصول الحوت العملاق، مقدمًا صورة سمعية بصرية مبهرة تعادل قوة النص الأصل. كما تعاون الثنائي في أفلام أخرى كتب كراسناهوركاي سيناريوهاتها، أبرزها «الرجل من لندن» (2007) و«حصان تورينو»  (2011).

تمكن بيلا تار عبر تلك الأفلام من ترسيخ سمعة كراسناهوركاي عالميًا، إذ عرف جمهور السينما أعماله قبل أن تطالها الترجمات الأدبية. ولعل خصوصية هذه العلاقة بين روائي ومخرج تكمن في التقاء رؤيتيهما التشاؤمية: فكلاهما يرسم عالمًا موحشًا بمعالجة فنية فذّة، الأول بالكلمات والثاني بالصورة. وقد نتج عن تعاونهما تزاوج فريد بين الأدب والسينما، أضاف بعدًا جديدًا لتأثير كراسناهوركاي على الثقافة البصرية الحديثة، وجعل من اسمه رمزًا لـالملحمة البصرية الأدبية في آن معًا.

تأتي الجائزة التي نالها  كتتويج لعمل طويل، ولتشكيله ظاهرة أدبية استثنائية في المشهد الروائي المعاصر. بلغته الخاصة ورؤيته الفلسفية الثاقبة. نقلت أعماله إحساس إنسان العصر بقلقه وخوفه وأحلامه المجهضة إلى صفحات مشحونة بجمالية قاتمة وأصالة فنية نادرة. وبينما يستمر إرثه بالاتساع والتأثير – سواء عبر ترجمة رواياته إلى المزيد من اللغات أو عبر الأفلام التي تستوحي عوالمه – يظل كراسناهوركاي صوتًا فريدًا يذكّرنا بقوة الأدب على استنطاق كوابيس الإنسان وتحويلها إلى فن رفيع. إنه بلا شك أحد كبار روائيي أوروبا اليوم، وسيد من سردوا فوضى العالم المعاصر بلغة لا تشبه سوى نفسها، لغة «الجمال في قلب الرعب» التي لن يكف القراء والنقاد عن تأملها طويلاً.

راديو أوريان-إذاعة الشرق

من مدينة جيولا في شرق المجر كانت في ال5  من يناير (كانون الثاني)  كان مهد الفائز بجائزة نوبل للآداب لعام 2025، الكاتب لاسلو كراسنا هو كاي 1954 ، في ظل اضطرابات عصر الحرب الباردة وهيمنة حزب شيوعي على البلاد. 

من دراسة القانون في البداية سيتحول  بعد ذلك إلى دراسة الأدب المجري والتاريخ في جامعة أوتفوش لوراند في بودابست، ليغلب شغفه بالكتابة على مساره الأكاديمي. بعد تخرجه عمل في دار نشر حكومية حيث صقل أسلوبه السردي المتفرّد، قبل أن يتفرغ للكتابة الإبداعية منذ مطلع الثمانينات.

في العام 1985 صدرت أولى روايته «ساتانتانغو» والتي (ترجمت إلى العربية إلى «تانغو الخراب»)، التي حققت نجاحًا أدبيًا كبيراً في المجر، معتبرة حدثًا فارقًا في الأدب المجري آنذاك. يصوّر كراسناهوركاي في هذه الرواية حياة مجموعة من الفلاحين الفقراء في مزرعة جماعية منهارة قبيل سقوط الشيوعية، وسط جو من الصمت والترقب في قرية نائية يغمرها الوحل واليأس. منذ صدور هذه الرواية  احتل أ كراسناهوركاي مكانة بارزة في الأدب المجري المعاصر، وبدأت أعماله تشق طريقها إلى العالمية مع ترجمتها لأكثر من ثلاثين لغة. ليسافر بعدها الكاتب إلى برلين الغربية في عام 1987 بمنحة أدبية هاربًا من قيود الرقابة في مجر  يانوش كادار الزعيم الشيوعي،  ليبدأ بعدها مرحلة في  التسعينات في أسفار طويلة شملت كلا من أوروبا الغربية والولايات المتحدة وآسيا (اليابان والصين ومنغوليا)، والمتابع لأعمال كراسناهوركاي سيعرف كيف أثرت هذه الرحلات بعمق في رؤيته الفكرية وموضوعاته الأدبية.

تتالت إبداعات كراسناهوركاي خلال العقود الأربعة الماضية، فصدر له ثمان روايات طويلة وخمس روايات قصيرة، إضافة إلى مجموعتين قصصيتين وعدّة نصوص تأملية وسيناريوهات سينمائية. روايته الثانية «كآبة المقاومة» (1989) — ترجمت أيضًا بعنوان «مقاومة الخراب» — عززت سمعته ككاتب، حتى دفعت الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ لتصفه بأنه «سيد الأدب الأبوكاليبسي»، في إشارة إلى فرادة رؤيته القائمة على استشراف نهايات كارثية للعالم. حصد كراسناهوركاي أرفع الجوائز الأدبية في بلاده، ونال جائزة مان بوكر الدولية عام 2015 عن مجمل أعماله ليكون أول مجري يفوز بها. طالما رُشّح اسمه لجائزة نوبل للآداب، إلى أن توّجت الأكاديمية السويدية مسيرته بمنحه جائزة نوبل لعام 2025 تقديرًا لـ«إبداعه الآسر ورؤيته الملحمية التي تؤكد قوة الفن في قلب الرعب الوجودي». بذلك أعاد كراسناهوركاي الأدب المجري إلى صدارة المشهد العالمي كخلفٍ معاصر لمواطنه إمرِه كيرتِس (نوبل 2002).

أسلوب سردي فريد وكابوسي

لاسلو كراسناهوركاي أسلوب  سردي  فريد  يميّزه عن أي كاتب آخر في جيله. تُنسج رواياته عبر جمل طويلة متدفقة تتشابك داخل فقرات قد تمتد لصفحات كاملة دون انقطاع. يتجنب كراسناهوركاي علامات الترقيم التقليدية إلى حد كبير، إذ يندر أن يضع نقطة في نهاية جمله المترابطة، وقد علق مازحًا بأن «الفاصلة المنقوطة تنتمي إلى الله» في إشارة إلى إيمانه بجملة متصلة مسترسلة بلا توقف. هذا التدفق السردي المستمر أقرب ما يكون إلى تيار وعي أو مونولوغ داخلي، يجرف القارئ في دوامة من الأفكار والمشاهد.

تعكس جُمل كراسناهوركاي المتعرجة والمتداخلة تأملًا فلسفيًا عميقًا وتفاصيل دقيقة حد الهوس في وصف العالم. يوظّف التكرار والبناء التركيبي المعقّد والإدراج الاعتراضي ليخلق إيقاعًا سرديًا أشبه بمعزوفة أدبية طويلة. وبرغم صعوبة هذا الأسلوب وطبيعته المرهِقة، إلا أنه يحمل متعة فكرية نادرة لمن يصبر عليه، إذ تمزج رواياته بين التأملات الفلسفية والسرد التخييلي بلغة شعرية آسرة.

كثيرًا ما تُقارَن أعماله بكبار أدباء الحداثة الأوروبية: وجد النقاد صلات بين عالمه السردي وعوالم فرانز كافكا وصامويل بيكيت وتوماس برنارد، بل ورأى بعضهم أنه سليل أولئك الكتّاب بحكم التقائه معهم في السخرية والعبث والأسلوب التجريبي. لم تتردد سوزان سونتاغ في الإشادة به بقولها إنه «معلم مجري معاصر في أجواء نهاية العالم، يستحق مقارنته بنيقولاي غوغول وهيرمان ملفيل». أما الناقد البريطاني جيمس وود فقد وصف قراءة روايته «حرب وحرب» (1999) بأنها «واحدة من أكثر التجارب إقلاقًا التي عرفتها كقارئ.

هكذا رسّخ كراسناهوركاي أسلوبه الخاص كـسيد الجملة الطويلة في عصرنا، وجعل من الكتابة رحلة شاقة تتطلب من القارئ تفاعلًا ذهنيًا وصبرًا غير معتاد، لكن جزاءها اكتشاف آفاق أدبية غير مطروقة.

عوالم كابوسية ورؤية فلسفية قاتمة

تتميز أعمال كراسناهوركاي بطابع كابوسي ديستوبي يخيم على أجوائها، حيث الخراب والفوضى هما الحالة الطبيعية للعالم. يستكشف الكاتب في رواياته أسئلة فلسفية ووجودية عميقة تتعلق بعبثية الحياة والاغتراب والعنف والسلطة، في عالم يبدو على شفير الفناء. شخصياته غالبًا ما تكون مسحوقة تحت وطأة واقع فاسد وكئيب، تعيش قلقًا وجوديًا دائمًا متجذرًا في أعماقها يسمم حياتها. نجدها مشلولة الفعل والإرادة، تلجأ أحيانًا إلى الخنوع أو الغيبيّة أو تنغمس في أعمال تدميرية وفوضوية. إنها شخصيات معلَّقة بين اليأس والرجاء، تتخبط في مواجهة قوى أكبر منها؛ أفراد ضعفاء في مواجهة قطيع أو سلطة جائرة، وهي ثنائية تتكرر بجلاء في رواياته.

في روايتيه الأبرز «تانغو الخراب» و«كآبة المقاومة»يتجلى هذا العالم الكابوسي في أوضح صوره. في تانغو الخراب – ذات البنية الدائرية المحكمة التي تحاكي خطوات التانغو – يقبع سكان قرية موحلة بائسة في انتظار خلاص ما بعد انهيار النظام. يظهر فجأة شخصان محتالان كان يُظن أنهما ماتا، فينظر إليهما القرويون كرسولين للخلاص أو نذيري نهاية. سرعان ما ينقاد الجميع وراء ألاعيبهما التي تغرقهم في دوّامة من الوهم، مستغلين حاجة الجماعة لتصديق معجزة تنقذهم من بؤسهم.

أما «كآبة المقاومة» فتدور أحداثها في بلدة مجرية صغيرة يخيّم عليها التوتر والخوف، تبلغ ذروتها مع وصول سيرك غامض يعرض جثة حوت عملاق محنّط. هذا المشهد المهيب يحرّك أسوأ الغرائز في المجتمع، فتندلع موجة عنف وتخريب تعم البلدة والبلاد بأسرها، ويعجز الجيش عن احتواء الفوضى الناتجة. في نهاية المطاف يستغل نظام استبدادي حالة الهلع هذه لينقلب على الحكم ويقيم ديكتاتورية حديدة.

يقدم الكاتب هذه الأحداث في مشاهد أقرب إلى الكابوس: أجواء مشؤومة، شخصيات مشوّهة أخلاقيًا، وضياع تام للقيم وسط انتشار العفن والقذارة والعنف. كأنما يطرح كراسناهوركاي رؤية مفادها أن البشرية تعيش في حقبة ما بعد انهيار النظام القديم، حيث ينهض الخراب لابتلاع كل شيء ولا يبقى للأفراد إلا الاستسلام لبؤس مقيم أو انتظار مخلّص لن يأتي.

مع تقدمه في التجربة، توسعت رؤى كراسناهوركاي الفكرية لتشمل نفحات تأملية وروحانية استلهمها من رحلاته إلى الشرق الأقصى. تجلّى ذلك في أعمال مثل روايته «من الشمال جبل، من الجنوب بحيرة، من الغرب دروب، من الشرق نهر» (2003) التي حملت نبرة صوفية في البحث عن “حديقة سرية” في كيوتو، وكذلك مجموعته «سيوبو زارت الأرض» (2008) التي تأملت دور الجمال والفن في عالم زائل عبر رؤية ميتافيزيقية عميقة.

وعلى الرغم من هذه الانعطافات التأملية، يبقى الجوهر في أدب كراسناهوركاي هو التأمل في مصير الإنسان داخل عالم آيل إلى الخراب، حيث «الجمال المؤلم» هو ما يبقى لأولئك القادرين على مواجهة الحقيقة المظلمة. وقد قال الكاتب عن نفسه يوم فوزه ببوكر العالمية: «ربما أكتب روايات لهؤلاء القرّاء الذين يحتاجون إلى جمال الجحيم»، في تلخيص بليغ لوظيفته الإبداعية: سبر أغوار العتمة بحثًا عن ومضة جمال في قلبها.

تأثيره على الأدب العالمي وشراكة السينما

يُعدّ كراسناهوركاي اليوم أحد أبرز الأصوات الأدبية في أوروبا المعاصرة، وصوتًا فريدًا يخاطب القلق الإنساني العميق في عصرنا. استطاع أن يرسخ حضور الأدب المجري عالميًا ويجد قراءً جددًا بلغات وثقافات مختلفة، بفضل خصوصية تجربته التي تمزج المحلّي بالعالمي. تأثر كراسناهوركاي بكبار الأدباء والفلاسفة؛ يصفه النقاد بأنه سليل كافكا وبرنارد ليس فقط لتأثره بأساليبهم بل لتمثّله قلقهم الوجودي وسخريتهم السوداء. وفي المقابل، أثر هو نفسه في الكثير من الكتّاب والفنانين حول العالم، إذ بات اسمه مرادفًا للسرد التجريبي الكابوسي.

لم يقتصر تأثير كراسناهوركاي على الأدب المكتوب فحسب، بل امتد إلى الفن السابع عبر شراكة إبداعية طويلة الأمد مع المخرج المجري الشهير بيلا تار. بدأ هذا التعاون منذ اقتباس روايته الأولى ساتانتانغو إلى فيلم سينمائي عام 1994 بالعنوان نفسه، في ملحمة سينمائية سوداوية الملامح تجاوزت مدتها سبع ساعات. يُعد فيلم «ساتانتانغو» اليوم علامة فارقة في تاريخ السينما الفنية، حيث نجح تار في ترجمة جمل كراسناهوركاي الطويلة ومشاهده البطيئة إلى لقطات طويلة وتأملية جسّدت الخراب والزمن المتحلل بصريًا.

تواصلت هذه الشراكة مع فيلم «تناغمات فيركمايستر» (2000) المقتبس عن رواية كآبة المقاومة، وفيه نقل تار على الشاشة أجواء البلدة المجرية المضمخة بالفوضى والخوف إثر وصول الحوت العملاق، مقدمًا صورة سمعية بصرية مبهرة تعادل قوة النص الأصل. كما تعاون الثنائي في أفلام أخرى كتب كراسناهوركاي سيناريوهاتها، أبرزها «الرجل من لندن» (2007) و«حصان تورينو»  (2011).

تمكن بيلا تار عبر تلك الأفلام من ترسيخ سمعة كراسناهوركاي عالميًا، إذ عرف جمهور السينما أعماله قبل أن تطالها الترجمات الأدبية. ولعل خصوصية هذه العلاقة بين روائي ومخرج تكمن في التقاء رؤيتيهما التشاؤمية: فكلاهما يرسم عالمًا موحشًا بمعالجة فنية فذّة، الأول بالكلمات والثاني بالصورة. وقد نتج عن تعاونهما تزاوج فريد بين الأدب والسينما، أضاف بعدًا جديدًا لتأثير كراسناهوركاي على الثقافة البصرية الحديثة، وجعل من اسمه رمزًا لـالملحمة البصرية الأدبية في آن معًا.

تأتي الجائزة التي نالها  كتتويج لعمل طويل، ولتشكيله ظاهرة أدبية استثنائية في المشهد الروائي المعاصر. بلغته الخاصة ورؤيته الفلسفية الثاقبة. نقلت أعماله إحساس إنسان العصر بقلقه وخوفه وأحلامه المجهضة إلى صفحات مشحونة بجمالية قاتمة وأصالة فنية نادرة. وبينما يستمر إرثه بالاتساع والتأثير – سواء عبر ترجمة رواياته إلى المزيد من اللغات أو عبر الأفلام التي تستوحي عوالمه – يظل كراسناهوركاي صوتًا فريدًا يذكّرنا بقوة الأدب على استنطاق كوابيس الإنسان وتحويلها إلى فن رفيع. إنه بلا شك أحد كبار روائيي أوروبا اليوم، وسيد من سردوا فوضى العالم المعاصر بلغة لا تشبه سوى نفسها، لغة «الجمال في قلب الرعب» التي لن يكف القراء والنقاد عن تأملها طويلاً.

من هوالكاتب لاسلو كراسناهوركاي… أول مجري يفوز بجائزة نوبل