إذاعة الشرق
في فجر 13 يونيو 2025، قصفت إسرائيل مواقع نووية وعسكرية داخل إيران في عملية أطلقت عليها «عملية الأسد الصاعد»؛ قفز خام برنت فوراً بأكثر من 7% وتوشّح مضيق هرمز بشبح الإغلاق. في لحظة، عادت ذاكرة الأسواق إلى نصف قرن من الصدمات النفطية الكبرى: من حظر 1973 إلى أزمة أوكرانيا. ما الذي تعلّمته الاقتصادات الغربية من تلك الهزّات، وهل تكفي الدروس القديمة لامتصاص الارتداد الجديد؟
حظر النفط العربي (1973 – 1974)
ارتفاع الأسعار أربع مرات وظهور «الركود التضخّمي».
الثورة الإيرانية والحرب العراقية-الإيرانية (1979 – 1980)
تضاعُف الأسعار مجدداً وتشديد فولكر النقدي لكسر التضخّم.
غزو العراق للكويت وحرب الخليج (1990 – 1991)
قفزة سعرية سريعة ودخول الاقتصاديات الغربية في ركود قصير.
الدورة الصعودية قبل الأزمة المالية (2003 – 2008)
طلب عالمي قوي، أسعار قياسية قرب 147 دولاراً، وتسريع برامج الطاقة المتجددة.
انهيار أسعار النفط الصخري (2014 – 2016)
تراجع يفوق 60 ٪ خفّض التضخم وأثار مخاوف انكماشية في أوروبا.
أزمة الطاقة بعد غزو أوكرانيا (2021 – 2023)
طفرة أسعار الغاز والنفط، تضخم من رقمين في أوروبا، وتسارع التحول الأخضر.

تطور أسعار خام برنت الاسمية منذ 1970 مع تظليل فترات الصدمات النفطية الست الكبرى (الحظر العربي 73-74، الثورة الإيرانية/الحرب العراقية-الإيرانية 79-80، غزو الكويت 90-91، الدورة الصعودية 2003-2008، انهيار النفط الصخري 2014-2016، أزمة الطاقة بعد غزو أوكرانيا 2021-2023).
حرب أكتوبر والصدمة الأولى
وقع الحظر النفطي العربي عام 1973–1974، فارتفع سعر البرميل أربعة أضعاف تقريباً وظهرت ظاهرة الركود التضخمي. أسهمت هذه التجربة في إنشاء وكالة الطاقة الدولية وتأسيس المخزون الاستراتيجي الأميركي، كما حفّزت معايير كفاءة الوقود في الولايات المتحدة وخطط أوروبا واليابان لاستغلال بحر الشمال وترشيد الاستهلاك.
على الصعيد السياسي انعكس ذلك بتشبيك المستهلكين ضد المنتجين: فأسّست الدول الصناعية «وكالة الطاقة الدولية» لتنسيق المخزونات وإدارة الأزمات، في أول تنظيمٍ سياسيّ يُوحّد مستوردي النفط
مشروع الاستقلال الطاقي الأمريكي: أطلق الرئيس نيكسون «Project Independence» معلنًا أن أمن الطاقة أصبح قضية أمن قومي، ومهّد ذلك لدعم واسع للنفط المحلي والقيود على السرعة وكفاءة الوقود.
تحوُّل محور الاهتمام الدبلوماسي: دفع الحظر واشنطن وعواصم أوروبية إلى تعميق الروابط مع السعودية ومنتجي الخليج، وإلى مراجعة سياساتها في الشرق الأوسط.
إيران بعد الثورة والصدمة الثانية
لم يطل الأمر حتى جاءت الثورة الإيرانية لتتبعها الحرب العراقية-الإيرانية، لتعود الأسعار بالتضاعف مجدداً في عامي 1979-1980. أطلقت موجة تضخمية جديدة ودفعت الاحتياطي الفيدرالي بقيادة فولكر إلى رفع الفائدة بقوة، ما أدى إلى ركود مبكر في الثمانينيات لكنه كسر دوامة التضخم. توسّع الاستثمار في مصادر بديلة مثل الفحم والنووي، وبرز بحر الشمال وألاسكا كلاعبين أساسيين في الإمدادات.
هذه الأزمة أنتجت ما بات يعرف بـ «عقيدة كارتر»: حيث أعلن الرئيس كارتر أن أي تهديد لتدفّق نفط الخليج سيُقابَل بالقوة العسكرية الأميركية، ما رسَّخ الوجود العسكري الدائم في المنطقة وأعاد ترتيب أولويات واشنطن العالمية.
كما ساهم ببروز «قوة الانتشار السريع» وحلفاء جدد: حيث سرّعت الولايات المتّحدة من إنشاء قواعد في الخليج والقرن الأفريقي، وأدّى ذلك إلى شراكات أمنية طويلة الأمد مع دول الخليج. كما أرخت هذه الأزمة بثقلها على قطاع البنوك، فأحدثت نقلة في سياسات البنوك المركزية: ولعل أبرزها هو تشديد فولكر النقدي لم يكن اقتصادياً فحسب؛ بل أرسى مبدأ استقلالية المصرف المركزي في مواجهة الضغوط السياسية.

صورة التقطت في نوفمبر 1973 في امستردام .. يظهر في الصورة 4 رجال يركبون الخيول للعودة لمنازلهم بينما تصطف السيارات على الجانبين نتيجة وقف العرب تصدير البترول خلال حرب اكتوبر 1973 ..
حرب الخليج
حلقة جديدة من حلقات أزمات الطاقة جاءت مع غزو العراق للكويت عام 1990، لترتفع الأسعار سريعاً. ورغم أن الصدمة أسهمت في ركود أوائل التسعينيات، فإن مدَّتها القصيرة مع الاعتماد على مخزونات الطاقة حدّا من الأضرار، فيما اتخذت البنوك المركزية موقفاً حذراً تفادياً لتشديد مفرط.
أسهمت هذه الأزمة في كثير من التغيرات والتطورات، بناء ائتلاف دولي بقيادة واشنطن: جمعت إدارة بوش الأب تحالفاً عريضاً تحت راية الأمم المتحدة لتحرير الكويت، مبرِّرة التدخّل بحماية أمن الطاقة العالمي؛ فأعادت تثبيت هيمنة الولايات المتّحدة بعد الحرب الباردة تعزيز دور السعودية داخل أوبك: سمح رفعها للإنتاج بتلطيف الصدمة وأسهم في تعميق اعتماد الغرب على الرياض سياسياً.
دورة الارتفاع الطويلة قبل الأزمة المالية
ربما تعتبر هذه الأزمة من الأكثر تعقيدا وطولاً فما بين العامين 2003 و2008 قفز الطلب العالمي على الطاقة، خصوصاً من الصين، بينما تقلصت الطاقة الفائضة فلامس النفط مستويات قياسية قرب 147 دولاراً. ارتفع التضخم لكن أثر الأسعار في الأجور بقي محدوداً بفضل انخفاض كثافة الطاقة وثبات توقعات التضخم. حفّز هذا الارتفاع الحكومات على دعم السيارات الموفرة للطاقة وتوسيع برامج الطاقة المتجددة قبل أن تعصف الأزمة المالية بالطلب العالمي.
ومثلما كانت هذه الأزمة طويلة ومتشابكة، فإن آثارها أيضاً على المستوى السياسي كانت كذلك. ولعل شعار الحزب الجمهوري «Drill, baby, drill» أو ما يترجم بسياسات «الحفر الآن» مقابل المناخ: في الولايات المتّحدة تصاعد جدل في انتخابات 2008، فيما دفعت أوروبا لتمويل طموح الطاقات المتجددة وخطط خفض الكربون.
كما أدت هذه الأزمة إلى مراجعة جيو-اقتصادية: حيث شدّد الاتحاد الأوروبي واليابان على تنويع الواردات (غرب أفريقيا، روسيا آنذاك، الغاز المسال) لتقليل نفوذ أوبك. وربما لا نزال نرى أثارها إلى يومنا هذا.
انهيار الأسعار في منتصف العقد الماضي
من 2014 إلى 2016 أدت وفرة النفط الصخري إلى انهيار الأسعار بأكثر من النصف، فشكّل ذلك صدمة لكن هذه المرة “إيجابية” للمستهلكين الغربيين عبر خفض معدلات التضخم وزيادة الدخل الحقيقي، لكنه أثار مخاوف من الانكماش ودفع البنك المركزي الأوروبي إلى مزيد من التيسير الكمي.
تمثل ذلك في إعادة رسم خريطة النفوذ داخل الغرب: الولايات المتّحدة استفادت سياسياً من طفرة الصخري وألغت حظر تصدير الخام (2015)، بينما أثّرت الأسعار المنخفضة في كندا وبريطانيا على ميزانيات الأقاليم المنتجة وأعادت فتح نقاشات الاستقلال المحلي.
ضغط على روسيا وفنزويلا: سمح تراجع الإيرادات النفطية بزيادة فاعلية العقوبات الغربية على موسكو وكراكاس.
أزمة الطاقة بعد غزو أوكرانيا
أدى الانقطاع الحاد في الغاز الروسي وتقلب سوق النفط إلى طفرة في الأسعار بين 2021 و2023. بلغ التضخم مستويات قياسية في أوروبا وتراجعت دخول الأسر، واضطر الاتحاد الأوروبي إلى إنفاق مئات المليارات لدعم فواتير الطاقة. دفعت الأزمة إلى تسريع نشر الطاقات المتجددة، وتوسيع البنية التحتية للغاز المسال، وفرض أهداف إلزامية لخفض الاستهلاك.

توربينات رياح بحرية ترتفع فوق بحر الشمال عند الغروب، رمزاً لتحوّل أوروبا إلى الطاقة المتجددة كدرع ضد صدمات النفط.
أزمة الطاقة 2021-2023
أحدث هذه الأزمات ربما ما زلنا أيضاً نعيش آثارها، والتي جاءت كرد على غزو روسيا لأوكرانيا/ لتظهر خطة REPowerEU: كرد على التدخل الروسي، حيث تبنى الاتحاد الأوروبي حزمة طوارئ لتقليل الاعتماد على المحروقات الروسية وتسريع التحول الأخضر، في خطوة اعتُبرت أكبر مشروع سيادي طاقي في تاريخ الاتحاد
سياسة المخزون والتحرّك الجماعي: أعاد الغرب تفعيل الإفراج المنسَّق من الاحتياطي الإستراتيجي، ما رسّخ من جديد دور وكالة الطاقة الدولية «كأمانة حرب» للطاقة.
وكان لهذه الأزمة العديد من الارتدادات حول العالم، حيث يحلل كثير من الاقتصاديين بأنها ساهمت في ارتدادات اجتماعية داخلية: أدّت فواتير الوقود المرتفعة إلى نقاشات محتدمة حول دعم الطاقة وإعادة فتح ملف الطاقة النووية، كما غذّت حركات احتجاجية في بعض البلدان.
بالإضافة إلى تأثيرات سياسية شعبوية فارتفاع أسعار الوقود كثيراً ما فجّر حركات احتجاجية واسعة، أبرزها:
حراك “السترات الصفراء” في فرنسا (2018): انطلقت ضد زيادة ضريبة الكربون على الوقود، ثم تحولت إلى حراك أوسع ضد النخبة السياسية، وأجبرت الإليزيه على تجميد الضريبة وإعادة ترتيب أولوياته الاجتماعية
موجات احتجاج في بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا ضد ارتفاع فواتير الطاقة في 2022، ما دفع الحكومات إلى حزم دعم سريعة وتعديل ضرائب غير مسبوقة على شركات النفط والغاز.
كل صدمة نفطية لم تُحدث تقلبات اقتصادية فحسب، بل أعادت صياغة عقيدة الأمن القومي في الغرب، ورسّخت التعاون بين الدول المستهلكة، وعمّقت الوجود العسكري في الخليج، ودَفَعَت باتجاه سياسات طاقة أكثر استقلالية واستدامة. ومع أن حدّة الأثر الاقتصادي تراجعت مع الزمن، بقيت التداعيات السياسية—من تحالفات عسكرية إلى اضطرابات شعبوية—عاملاً حاسماً في رسم السياسات الغربية حيال الطاقة والشرق الأوسط معاً.
إذاعة الشرق
في فجر 13 يونيو 2025، قصفت إسرائيل مواقع نووية وعسكرية داخل إيران في عملية أطلقت عليها «عملية الأسد الصاعد»؛ قفز خام برنت فوراً بأكثر من 7% وتوشّح مضيق هرمز بشبح الإغلاق. في لحظة، عادت ذاكرة الأسواق إلى نصف قرن من الصدمات النفطية الكبرى: من حظر 1973 إلى أزمة أوكرانيا. ما الذي تعلّمته الاقتصادات الغربية من تلك الهزّات، وهل تكفي الدروس القديمة لامتصاص الارتداد الجديد؟
حظر النفط العربي (1973 – 1974)
ارتفاع الأسعار أربع مرات وظهور «الركود التضخّمي».
الثورة الإيرانية والحرب العراقية-الإيرانية (1979 – 1980)
تضاعُف الأسعار مجدداً وتشديد فولكر النقدي لكسر التضخّم.
غزو العراق للكويت وحرب الخليج (1990 – 1991)
قفزة سعرية سريعة ودخول الاقتصاديات الغربية في ركود قصير.
الدورة الصعودية قبل الأزمة المالية (2003 – 2008)
طلب عالمي قوي، أسعار قياسية قرب 147 دولاراً، وتسريع برامج الطاقة المتجددة.
انهيار أسعار النفط الصخري (2014 – 2016)
تراجع يفوق 60 ٪ خفّض التضخم وأثار مخاوف انكماشية في أوروبا.
أزمة الطاقة بعد غزو أوكرانيا (2021 – 2023)
طفرة أسعار الغاز والنفط، تضخم من رقمين في أوروبا، وتسارع التحول الأخضر.

تطور أسعار خام برنت الاسمية منذ 1970 مع تظليل فترات الصدمات النفطية الست الكبرى (الحظر العربي 73-74، الثورة الإيرانية/الحرب العراقية-الإيرانية 79-80، غزو الكويت 90-91، الدورة الصعودية 2003-2008، انهيار النفط الصخري 2014-2016، أزمة الطاقة بعد غزو أوكرانيا 2021-2023).
حرب أكتوبر والصدمة الأولى
وقع الحظر النفطي العربي عام 1973–1974، فارتفع سعر البرميل أربعة أضعاف تقريباً وظهرت ظاهرة الركود التضخمي. أسهمت هذه التجربة في إنشاء وكالة الطاقة الدولية وتأسيس المخزون الاستراتيجي الأميركي، كما حفّزت معايير كفاءة الوقود في الولايات المتحدة وخطط أوروبا واليابان لاستغلال بحر الشمال وترشيد الاستهلاك.
على الصعيد السياسي انعكس ذلك بتشبيك المستهلكين ضد المنتجين: فأسّست الدول الصناعية «وكالة الطاقة الدولية» لتنسيق المخزونات وإدارة الأزمات، في أول تنظيمٍ سياسيّ يُوحّد مستوردي النفط
مشروع الاستقلال الطاقي الأمريكي: أطلق الرئيس نيكسون «Project Independence» معلنًا أن أمن الطاقة أصبح قضية أمن قومي، ومهّد ذلك لدعم واسع للنفط المحلي والقيود على السرعة وكفاءة الوقود.
تحوُّل محور الاهتمام الدبلوماسي: دفع الحظر واشنطن وعواصم أوروبية إلى تعميق الروابط مع السعودية ومنتجي الخليج، وإلى مراجعة سياساتها في الشرق الأوسط.
إيران بعد الثورة والصدمة الثانية
لم يطل الأمر حتى جاءت الثورة الإيرانية لتتبعها الحرب العراقية-الإيرانية، لتعود الأسعار بالتضاعف مجدداً في عامي 1979-1980. أطلقت موجة تضخمية جديدة ودفعت الاحتياطي الفيدرالي بقيادة فولكر إلى رفع الفائدة بقوة، ما أدى إلى ركود مبكر في الثمانينيات لكنه كسر دوامة التضخم. توسّع الاستثمار في مصادر بديلة مثل الفحم والنووي، وبرز بحر الشمال وألاسكا كلاعبين أساسيين في الإمدادات.
هذه الأزمة أنتجت ما بات يعرف بـ «عقيدة كارتر»: حيث أعلن الرئيس كارتر أن أي تهديد لتدفّق نفط الخليج سيُقابَل بالقوة العسكرية الأميركية، ما رسَّخ الوجود العسكري الدائم في المنطقة وأعاد ترتيب أولويات واشنطن العالمية.
كما ساهم ببروز «قوة الانتشار السريع» وحلفاء جدد: حيث سرّعت الولايات المتّحدة من إنشاء قواعد في الخليج والقرن الأفريقي، وأدّى ذلك إلى شراكات أمنية طويلة الأمد مع دول الخليج. كما أرخت هذه الأزمة بثقلها على قطاع البنوك، فأحدثت نقلة في سياسات البنوك المركزية: ولعل أبرزها هو تشديد فولكر النقدي لم يكن اقتصادياً فحسب؛ بل أرسى مبدأ استقلالية المصرف المركزي في مواجهة الضغوط السياسية.

صورة التقطت في نوفمبر 1973 في امستردام .. يظهر في الصورة 4 رجال يركبون الخيول للعودة لمنازلهم بينما تصطف السيارات على الجانبين نتيجة وقف العرب تصدير البترول خلال حرب اكتوبر 1973 ..
حرب الخليج
حلقة جديدة من حلقات أزمات الطاقة جاءت مع غزو العراق للكويت عام 1990، لترتفع الأسعار سريعاً. ورغم أن الصدمة أسهمت في ركود أوائل التسعينيات، فإن مدَّتها القصيرة مع الاعتماد على مخزونات الطاقة حدّا من الأضرار، فيما اتخذت البنوك المركزية موقفاً حذراً تفادياً لتشديد مفرط.
أسهمت هذه الأزمة في كثير من التغيرات والتطورات، بناء ائتلاف دولي بقيادة واشنطن: جمعت إدارة بوش الأب تحالفاً عريضاً تحت راية الأمم المتحدة لتحرير الكويت، مبرِّرة التدخّل بحماية أمن الطاقة العالمي؛ فأعادت تثبيت هيمنة الولايات المتّحدة بعد الحرب الباردة تعزيز دور السعودية داخل أوبك: سمح رفعها للإنتاج بتلطيف الصدمة وأسهم في تعميق اعتماد الغرب على الرياض سياسياً.
دورة الارتفاع الطويلة قبل الأزمة المالية
ربما تعتبر هذه الأزمة من الأكثر تعقيدا وطولاً فما بين العامين 2003 و2008 قفز الطلب العالمي على الطاقة، خصوصاً من الصين، بينما تقلصت الطاقة الفائضة فلامس النفط مستويات قياسية قرب 147 دولاراً. ارتفع التضخم لكن أثر الأسعار في الأجور بقي محدوداً بفضل انخفاض كثافة الطاقة وثبات توقعات التضخم. حفّز هذا الارتفاع الحكومات على دعم السيارات الموفرة للطاقة وتوسيع برامج الطاقة المتجددة قبل أن تعصف الأزمة المالية بالطلب العالمي.
ومثلما كانت هذه الأزمة طويلة ومتشابكة، فإن آثارها أيضاً على المستوى السياسي كانت كذلك. ولعل شعار الحزب الجمهوري «Drill, baby, drill» أو ما يترجم بسياسات «الحفر الآن» مقابل المناخ: في الولايات المتّحدة تصاعد جدل في انتخابات 2008، فيما دفعت أوروبا لتمويل طموح الطاقات المتجددة وخطط خفض الكربون.
كما أدت هذه الأزمة إلى مراجعة جيو-اقتصادية: حيث شدّد الاتحاد الأوروبي واليابان على تنويع الواردات (غرب أفريقيا، روسيا آنذاك، الغاز المسال) لتقليل نفوذ أوبك. وربما لا نزال نرى أثارها إلى يومنا هذا.
انهيار الأسعار في منتصف العقد الماضي
من 2014 إلى 2016 أدت وفرة النفط الصخري إلى انهيار الأسعار بأكثر من النصف، فشكّل ذلك صدمة لكن هذه المرة “إيجابية” للمستهلكين الغربيين عبر خفض معدلات التضخم وزيادة الدخل الحقيقي، لكنه أثار مخاوف من الانكماش ودفع البنك المركزي الأوروبي إلى مزيد من التيسير الكمي.
تمثل ذلك في إعادة رسم خريطة النفوذ داخل الغرب: الولايات المتّحدة استفادت سياسياً من طفرة الصخري وألغت حظر تصدير الخام (2015)، بينما أثّرت الأسعار المنخفضة في كندا وبريطانيا على ميزانيات الأقاليم المنتجة وأعادت فتح نقاشات الاستقلال المحلي.
ضغط على روسيا وفنزويلا: سمح تراجع الإيرادات النفطية بزيادة فاعلية العقوبات الغربية على موسكو وكراكاس.
أزمة الطاقة بعد غزو أوكرانيا
أدى الانقطاع الحاد في الغاز الروسي وتقلب سوق النفط إلى طفرة في الأسعار بين 2021 و2023. بلغ التضخم مستويات قياسية في أوروبا وتراجعت دخول الأسر، واضطر الاتحاد الأوروبي إلى إنفاق مئات المليارات لدعم فواتير الطاقة. دفعت الأزمة إلى تسريع نشر الطاقات المتجددة، وتوسيع البنية التحتية للغاز المسال، وفرض أهداف إلزامية لخفض الاستهلاك.

توربينات رياح بحرية ترتفع فوق بحر الشمال عند الغروب، رمزاً لتحوّل أوروبا إلى الطاقة المتجددة كدرع ضد صدمات النفط.
أزمة الطاقة 2021-2023
أحدث هذه الأزمات ربما ما زلنا أيضاً نعيش آثارها، والتي جاءت كرد على غزو روسيا لأوكرانيا/ لتظهر خطة REPowerEU: كرد على التدخل الروسي، حيث تبنى الاتحاد الأوروبي حزمة طوارئ لتقليل الاعتماد على المحروقات الروسية وتسريع التحول الأخضر، في خطوة اعتُبرت أكبر مشروع سيادي طاقي في تاريخ الاتحاد
سياسة المخزون والتحرّك الجماعي: أعاد الغرب تفعيل الإفراج المنسَّق من الاحتياطي الإستراتيجي، ما رسّخ من جديد دور وكالة الطاقة الدولية «كأمانة حرب» للطاقة.
وكان لهذه الأزمة العديد من الارتدادات حول العالم، حيث يحلل كثير من الاقتصاديين بأنها ساهمت في ارتدادات اجتماعية داخلية: أدّت فواتير الوقود المرتفعة إلى نقاشات محتدمة حول دعم الطاقة وإعادة فتح ملف الطاقة النووية، كما غذّت حركات احتجاجية في بعض البلدان.
بالإضافة إلى تأثيرات سياسية شعبوية فارتفاع أسعار الوقود كثيراً ما فجّر حركات احتجاجية واسعة، أبرزها:
حراك “السترات الصفراء” في فرنسا (2018): انطلقت ضد زيادة ضريبة الكربون على الوقود، ثم تحولت إلى حراك أوسع ضد النخبة السياسية، وأجبرت الإليزيه على تجميد الضريبة وإعادة ترتيب أولوياته الاجتماعية
موجات احتجاج في بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا ضد ارتفاع فواتير الطاقة في 2022، ما دفع الحكومات إلى حزم دعم سريعة وتعديل ضرائب غير مسبوقة على شركات النفط والغاز.
كل صدمة نفطية لم تُحدث تقلبات اقتصادية فحسب، بل أعادت صياغة عقيدة الأمن القومي في الغرب، ورسّخت التعاون بين الدول المستهلكة، وعمّقت الوجود العسكري في الخليج، ودَفَعَت باتجاه سياسات طاقة أكثر استقلالية واستدامة. ومع أن حدّة الأثر الاقتصادي تراجعت مع الزمن، بقيت التداعيات السياسية—من تحالفات عسكرية إلى اضطرابات شعبوية—عاملاً حاسماً في رسم السياسات الغربية حيال الطاقة والشرق الأوسط معاً.
